في يوم الجمعة الموافق 20 مايو 2016،حضرت – بصفتي باحثاً في الحركات الإسلامية – افتتاح المؤتمر الوطني العاشر لحركة النهضة في تونس بمدينة رادس في القاعة الأولمبية، حيث تحدث في هذا الافتتاح كل من رئيس الجهورية التونسية السيد الباجي قائد السبسي، ونائب رئيس حركة النهضة الشيخ عبدالفتاح مورو، ورئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي.
حضر هذا المؤتمر عدد من الشخصيات الوطنية وممثلي الأحزاب السياسية التونسية وسفراء بعض الدول كالسفير الفرنسي والإيراني، وعدد من الضيوف من خارج تونس، فضلاً عن العدد الكبير من الشعب التونسي الذي ملأ القاعة الأولمبية المغطاة.
سيتطرق هذا المقال إلى رؤى حركة النهضة، خصوصا التي ذكرها بشكل خاص الشيخ راشد الغنوشي في كلمة افتتاح المؤتمر العاشر وما تضمنته اللائحة العامة، لأن هذا المؤتمر لا يشبه على الإطلاق المؤتمرات السابقة التي عقدتها النهضة، ولأنه حمل وعوداً – إن جاز التعبير – ستُحفظ في ذاكرة الصحف والإعلام المحلي والعربي والدولي، والمكونات السياسية المتنوعة، والشعب التونسي بصفة خاصة.
في المسألة السياسية
لعل قرار الفصل ما بين الجانب الدعوي والسياسي أو التخصص الوظيفي كما يصفه الشيخ راشد الغنوشي، بالإضافة إلى انتخاب قيادة حركة النهضة في المرحلة القادمة ولمدة أربع سنوات، يعتبران العنوان الرئيسي لهذا المؤتمر من دون التقليل من أهمية مشروع ورؤى الحركة سواء في الصعيد الاقتصادي أو الفكري أو الاجتماعي.
وفي الوقت نفسه ينظر بعض السياسين والباحثين إلى الفصل – ما بين الدعوي والسياسي – الذي تم تدشينه في هذا المؤتمر بمكانة خطوة مهمة في مسار التطوير، لأن الانشغال في الدمج أو الخلط ما بين الصيغة السياسية والدينية قد يزيد من صعوبة استيعاب المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشهدها تونس والعالم، وهذا أيضاً ما تطرقت له الحركة في مضامين رؤيتها الهيكلية والتنظيمية.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الفصل لا يعني تخلّي الحركة عن المرجعية الإسلامية، بل أتى ذلك حماية للدين وإبعاده عن المعترك السياسي وتداعياته، وهذا ما أكده الشيخ راشد الغنوشي في مؤتمر الحركة عندما وصف النهضة بأنها: «حزب ديموقراطي وطني متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام».
لقد ارتكز قرار الفصل السابق أيضاً على دراسة عميقة لواقع الحركة، وعلى متابعة وتحليل لتجارب الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وما تمخض عنها من نجاح كالتجربة التركية والمغربية، وتعثر كالتجربة المصرية. وبعبارة أخرى استطاعت حركة النهضة أن توازن بين التجارب السابقة بسلبياتها وإيجابياتها بغية إنتاج تجربة خاصة بها تتواءم مع البيئة التونسية وخصوصيتها الثقافية والفكرية، ولعل تمسكها بخيار التوافق سواء في الحكم أو التنازل عنه، مقدمة للإنتاج السياسي الجديد، وذكر الشيخ راشد الغنوشي في هذا الصدد: «ونحن نؤكد أن النهضة ستبقى دعامة لاستقرار تونس، مجددين دعمنا للحكومة وحرصنا على وحدة الإئتلاف الحاكم، وتمسكنا بالنهج التوافقي».
طرحت حركة النهضة عدة حلول لمواجهة إشكاليات الاقتصاد التونسي وتنميته، من خلال التوزيع العادل للثروة، وحماية الاقتصاد أمنياً وسياسياً وتحييده عن الخلافات والتجاذبات، وتفعيل دور القطاع الخاص وتقديم التسهيلات الممكنة له، ودعم القطاع الزراعي وتكوين مشاريع خاصة تعود بالنفع الاقتصادي العام، وقد دعا الشيخ راشد الغنوشي الدولة إلى استثمار جهود الشباب في هذا القطاع من خلال توزيع الأراضي الزراعية وتقديم القروض لهم لإعادة الدور المركزي للزراعة في تونس، بالإضافة إلى ضرورة تسهيل قوانين الصرف وتداول العملات.
تطرق الشيخ راشد الغنوشي في كلمته إلى ظاهرة العنف والتيارات المتطرفة؛ موضحاً عدم الارتباط بين الدين الإسلامي وجرائم المتطرفين في تونس، ودعا بضرورة محاربة الإرهاب وتبرئة ساحة الإسلام المعتدل من تلك الجرائم. لذلك يعتبر الملف الأمني وتحدي الإرهاب من أولويات المشروع السياسي لدى حركة النهضة، حيث ارتكز على تطوير القوات المسلحة وتعزيز قدراتها، ومواجهة ظاهرة العنف أو الإرهاب بالفكر وبحل اشكالية التهميش الاجتماعي، ومحاربة الظاهرة بصيغة وطنية يشارك فيها الطيف السياسي التونسي من دون اقصاء لأي مكون، أي أن تكون المسألة الأمنية قضية وطنية بعيدة عن المصالح الحزبية والفئوية.
لكي تنجح حركة النهضة في ترجمة رؤيتها الفكرية، ومشاريعها الاقتصادية والسياسية، فهي بحاجة إلى توسيع دائرة التطوير، من خلال تمكين العنصر الشاب في النهضة من ممارسة دور فاعل داخل الحزب، وأعني بذلك المستوى القيادي. لقد رأيت خلية نحل – من شباب وشابات – تعمل بجد واجتهاد دون ملل لإنجاح مؤتمر النهضة بفكر ولغة عصرية. وأعتقد أن هذا الوقت مناسب جداً لإشراك الشباب في صنع القرار وليس في تنفيذه فقط.
يتفق أعضاء الحركة على أن مرحلة الاسلام الإحتجاجي – بعد المشاركة السياسية والحكم – والتمايز – بعد الفصل- عن المجتمع انتهت، وأصبحت في تاريخ الحركة، وهذا ما ساعد على التأقلم مع متطلبات المرحلة الراهنة.
لكن المتابع لخطاب بعض البارزين في الحركة سيلاحظ أن عقلية الاحتجاج وأسلوب الوصاية على المجتمع مازال حاضرين!! وسيؤثران سلباً في الدولة والمجتمع التونسي والحزب من الداخل، وعلى مشروعها الجديد الذي لم يجف حبره إلى الآن. ماضي الحركة ينبغي أن يكون أهم عامل للتطوير والتغيير والتجديد وهو ما أكده الشيخ راشد الغنوشي في المؤتمر، أي أن مرحلة التردد الفكري قد انتهت مع انطلاق وعود النهضة في 20 مايو 2016 م.
آخر مقالات الكاتب:
- ساعة مع الغنوشي
- من هم الإسلاميون التقدميون؟
- الإسلاميون والكماليون في تركيا: صعود الهامش وتراجع الأساس
- الحشاشون في المخيلة الروائية
- قراءة في قرار مشاركة “حدس”
- وعود حزب النهضة التونسي
- حزب حركة النهضة التونسي : من خيار الدمج إلى خيار الفصل
- أزمة الفكر العربي
- قراءة لقصة مناضل يعيش بيننا الآن
- لم تكن سجيناً يا أبا حمود