قال محاوري: هل تعتقد أن سياسة الأمر الواقع تختلف عن القناعة؟ وكيف يمكن أن يجتمعا في شخص واحد؟ قلت: الأولى فرض المسائل عمليا وتكرارها والإصرار عليها، وهي سلوك غير مأمون النتائج، وكثيرا ما يقصد صاحبه الهروب من القناعات والقواعد التي يسير عليها الآخرون من خلال تمشية الأمور واقعيا، وغالبا ما يستفيد من صمت الطرف صاحب القواعد أو القناعات لحبه له وحرصه عليه وعدم رغبته في جرحه، فيقوم بالمضي به واقعيا، وهو عادة أسلوب الابن مع أحد والديه أو الحبيب مع من يحبه أو الطالب مع أستاذه أو من الموظف مع مسؤوله، ويفوت هذا وذاك أن مثل هذا المسلك قد يحقق مراده مؤقتا أو في بعض الاحيان، لكن هناك شيئا سلبيا بدأ وقد تكون له تراكمات غير محمودة النتائج، لأن سياسة الأمر الواقع هي تمرد من شخص على قواعد وترتيبات نابعة عن قناعات، قد يكون الشخص وضعها وكرسها عبر فترات طويلة؛ ولذا يحرص عليها، فإذا حدث مثل هذا التمرد فانه قد يؤدي ذلك الى خسران الشخص ذي الأهمية البالغة في حياة ذاك المتمرد من خلال سلوك سياسة الأمر الواقع، وهي التي كان ممكنا تجنبها، لأن هناك مسلكا أفضل منها.
أما القناعة فهي القبول بالمتاح مما يحصل عليه الإنسان وما يمكن أن يقدمه الآخرون له، وهو سلوك حميد، فعلى الرغم من أن الإنسان قد لا يحصل على كل ما يرغب فيه من الآخرين أو من مباهج الحياة ومزاياها، فان المؤكد أنه متى ما شعر الناس بسلوك القناعة الذي يتصرف به هذا الشخص فانهم يفسحون له مجالا أرحب في حياتهم ويمدونه بالمزيد مما هو لديهم بمشاركة لا بتفضل، وبطيب خاطر لا بفرض أو إجبار، بل ان الشخص الذي يتسم خلقه بالقناعة يصبح مريحا ومستريحا في حياته مع أهله وأصدقائه وأحبابه وكل من يعرفه، وعندئذ ربما يحدث أن يرغب الناس في أن يتنازلوا عن قواعدهم والمستقر عندهم من قناعات كسبا وحبا بهذا الشخص القنوع، فإذا بمن كان معه عنيدا شرسا حينما كان يحاول فرض الأمور بسياسة الأمر الواقع، قد صار هينا لينا وديعا في تحقيق ما يتمناه القنوع بمسلكه الإيجابي، ومن كان الناس ينفرون منه ربما كان يخسرهم بفرض سياسة الواقع، أصبح محببا، يلتف الناس حوله ويلتقون عليه، ولا يخلو إنسان من الأمرين، لكن الفطن هو من ينجح في تكريس وممارسة شخصية القناعة على شخصية الأمر الواقع.