أما القضاء فلابد من استقلاله ونزاهته، وأي تلاعب بالقضاء هو تلاعب بنمط إدارة الدولة التي تعاني الأمرّين من حالة تراجع، وأورام خبيثة. افترضنا منذ البداية أن قضاءنا مستقل “نسبياً”، وتيقّنا أن داخل الجسم القضائي أشخاصاً مستقلين ونزيهين مطلقاً، يحاولون بجد واجتهاد تحويل ما هو “نسبي” إلى “مطلق”. وكان لهم أن حققوا بعض النجاحات، التي من المفترض أن تتراكم لكي يصبح القضاء مستقلاً بالكامل. فالحكومة، كما تعلن في بعض لحظات التجلي، غير قادرة على إدارة ٧٠٪ من مشاريعها، فكيف تفكر، مجرد تفكير، في أن تنشئ مجلس دولة لكي تهيمن به على القضاء، وتحيله إلى مشروع فاشل، ومرفق سياسي؟!
فتَح إنشاء المحكمة الإدارية أبواباً دخلت منها رياح وعواصف على سلوك الحكومة الإداري، ونظرتها الاستعلائية إلى حقوق البشر، وصدور أحكام ضد سلوكيات غير مسؤولة واستهتار من بعض المسؤولين، لدرجة أن بعضهم يرفض تنفيذ أحكام قضائية نهائية. وكان تصور الحكومة، حينذاك، أنّ حجب أربع قضايا عن القضاء كافٍ، وهي امتيازات الصحف، والجنسية، والإبعاد، ودور العبادة، على أساس أنها قضايا سيادية، فبدأت السبحة بالتساقط عند صدور قانون المطبوعات الذي نظم امتيازات الصحف تنظيماً إدارياً. وبالتالي لم يعد الاحتجاج بالسيادة واقعياً، أو قانونياً أو دستورياً. ويبدو أن الأحكام التي صدرت في قضايا الجنسية تحديداً قد أصابت السلطة بالقلق، مما جعلها تعيد تضمينها تشريعات جديدة.
نحن الآن أمام مشروع مجلس دولة، سيدخل منه ومن خلاله، حسب النصوص، هيمنة حكومية، وهي هيمنة تضر ولا تنفع، تدمر ولا تبني، تجرح ولا تداوي، ففيها سلطةٌ تفْتئت على سلطة، والتجارب بيننا طويلة ومريرة وأليمة.
القضاء وجد ليكون مستقلاً، فإن كان استقلاله لايزال نسبياً، فدورنا أن نعزّز منه، ولذا كان الانفتاح التاريخي الذي يسمح للأفراد باللجوء إلى المحكمة الدستورية على قيوده، فتحاً مهماً في مسيرة تعزيز القضاء.
ثبت لنا بالدليل القاطع أن السلطة التنفيذية تحتاج إلى الكثير لكي تدير شؤون البلد إلى بر الأمان، وبالتالي فإن محاولة الالتفاف على السلطة القضائية، ستضعها في وضع لا تحسد عليه.
مشروع القانون بحاجة إلى مناقشة فوق الطاولة، لا تحتها، وفي الغرف المضاءة لا المظلمة، وإشراك السلطة القضائية جملة وتفصيلاً، وإلا فإننا أمام مشروع يقودنا لمزيد من التخلف، وزمن السلطة الواحدة، التي تقودنا إلى الهاوية.