تعتقد إسرائيل والصهيونية أن الوقت كفيل بتأمين حالة من النسيان بين العرب الفلسطينيين ممن طردتهم عام النكبة في 1948، وبالفعل لقد أسقط التاريخ من قاموسه قضايا تطهير عرقي كثيرة، كما وقع بين الأتراك واليونان بعد الحرب العالمية الأولى أو بين الباكستان والهند بعد الثانية أو كما حصل في مواقع كثيرة في إفريقيا أم في استعمار أميركا.. لكن الذي لا تتوقف إسرائيل أمامه أنها أقامت ليومنا هذا نظاماً سياسياً وإدارياً واقتصادياً بل وعسكرياً مهيمناً هدفه الاستمرار في الطرد الجماعي والفردي والسيطرة على الأرض..
فالنكبة الفلسطينية ليست حدثاً تاريخياً فحسب، فهي لو كانت حدثاً تاريخياً فقط لكان أمرها انتهى مع الحدث ونتائجه، لكن النكبة اكتسبت منذ عام 1948 ديمومة محددة، لأنها مستمرة عبر ما تقوم به إسرائيل في فلسطين.. ما أخذته الصهيونية عام 1948، أسس لمصادرة المنازل والأراضي والحقوق ومنع العودة، وأدى بطبيعة الحال لحرب 1956 ثم لحرب 1967، والتي أسست لحروب شتي كحرب 1973 وحرب 1982 والانتفاضات والثورات التي لا حد لها في فلسطين وحولها في الأردن ولبنان.. لهذا فالحديث عن نهاية النكبة ليس في مكانه.
ومنذ اتفاق أوسلو عام 1994 ارتفعت آمال الفلسطينيين بإمكانية نهاية النكبة كعملية مستمرة.. مبدأ حل الحد الأدنى مع إسرائيل تحكم بمرحلة ما بعد التوقيع على أوسلو، وهذا بدوره عبر عن استعداد فلسطيني للقبول بما ينقذ ما تبقى من الأرض (دولة فلسطينية في الضفة والقدس وغزة) قبل أن يقضي عليها الاستيطان والتهويد.. ولكن بعد أوسلو وقعت عملية تهميش لأجزاء مهمة من الشعب الفلسطيني بما فيها فلسطينيو الشتات واغتيل صانع الاتفاق في الجانب الإسرائيلي رئيس الوزراء إسحاق رابين برصاص متطرف يهودي، واغتيل عرفات على الأغلب مسموماً من قبل إسرائيل.. لقد استمرت سياسات التهويد والاحتلال ولم تصل القضية الفلسطينية إلى أي من الحلول العادلة.
الصراع مستمر في كل يوم، فتارة يعبر عن نفسه حول القدس وتارة حول يهودية الدولة وتطهيرها من العرب، وتارة حول غزة والحروب عليها والضفة وتهويدها وتارة ينتقل الصراع باتجاه الضغط على الولايات المتحدة لترك سوريا تستنزف في حربها أو لحل الجيش العراقي بعد 2003، أو حتى السعي الإسرائيلي السابق لضرب إيران عسكرياً ارتبط بمقياس سعي إسرائيل للبقاء قوة وحيدة في الإقليم.. إسرائيل داعم أساسي لتفتيت الإقليم ولبقاء العرب تحت الاستبداد..
الصراع مع الصهيونية ليس في نهاياته، فالنكبة الفلسطينية هي نكبة عربية مستمرة. لن يتقدم الواقع العربي إلا إذا انتبه وعيا وسلوكا لعمق مشكلته المركبة مع الصهيونية.. المشكلة ليست مع اليهودية ومع الوجود اليهودي في فلسطين، فهذه الديمغرافيا أصبح لها أجيال، بل المشكلة في عمقها مع الصهيونية وتعبيراتها السياسية بصفتها آلية عنصرية هدفها يتجاوز حدود فلسطين ويصل لعمق البلدان العربية والإسلامية.. لنتذكر أن القرار الأميركي مازال سارياً: يجب أن تبقى إسرائيل في كل الأوقات أقوى من مجموع جيوش الدول العربية.
إن النظام الإداري والأمني والعسكري الذي أقامته إسرائيل بهدف اضطهاد العرب وسكان البلاد الأصليين لم توقفه منذ نكبة 1948.. هذا النظام الاستيطاني والاستعماري يستند على سلسلة من الامتيازات العنصرية المقدمة للقادمين اليهود الجدد والقدامى هدفه ربط أكبر قطاع من مواطني الدولة الإسرائيلية من اليهود مع العنصرية وسياسة الاضطهاد والطرد، ولا يوجد في المدى المنظور ما ينبأ بمقدرة الصهاينة أو النظام الإسرائيلي على التخلي عن هذا الوضع. معضلة الصهيونية أنها سائرة نحو مزيد من الصدامات بينما ضحاياها من الفلسطينيين والعرب سائرين نحو مزيد من التمسك بالحقوق والصمود والبقاء على الأرض والتعايش مع التحدي.. في سياساتها تكرر إسرائيل النكبة كل يوم، وتخلق تواصلاً جباراً بين كل جيل والجيل الفلسطيني والعربي الذي يليه.