غداً يصادف ذكرى مرور قرن كامل على توقيع اتفاقية سايكس بيكو
(16 مايو، 191٦)، وبموجبها تم تقسيم التركة العثمانية بين الدولتين البريطانية والفرنسية، وتم رسم حدود دول المنطقة العربية التي نعرفها الآن، وبهذه المناسبة نشرت “الإيكونوميست” تقريراً مفصلاً عن المنطقة بعنوان “حروب الداخل”.
لا يمكن حسب التقرير السابق أن يقطع القارئ بوجود سبب واحد للتشظي العربي وحروبه، مثل أنظمة حكم مستبدة فاسدة تعيد إنتاج نفسها، أو أيديولوجيا دينية متطرفة تسارع لملء فراغ غياب الشرعية والرعاية الاجتماعية من الدولة للشعوب، أو أن يكون السبب هو التدخل الأجنبي الاستعماري القديم أو الحديث مثلما حدث في عراق 2003 أو ليبيا ومعهما حروب الوكالات في سورية الآن ولبنان في الفترة ما بين 75 حتى 90.
تظل الحقيقة باقية بأن المنطقة العربية بتاريخها تمثل خليطاً من الأعراق القومية والقبلية والطائفية المتنافرة، التي وجدت نفسها تحت راية أنظمة حكم لا تنتمي ولا ترتبط بها، لكن لا يوجد سبب واحد يمكن أن نؤشر عليه ونقول: هذا سبب كارثتنا، ونتناسى بقية الأسباب، فحين نتهم أنظمة الحكم فقط ننسى واقع مجتمعاتنا التي أنتجب هذه الأنظمة بداية أو سكتت عنها في ما بعد، وحين نتهم التدخل الأجنبي بصورة مطلقة (إسرائيل وعدوانها تدخل في هذه الخانة) فهنا نعلق أمراضنا التاريخية عليه، وننسى أنفسنا وعبء المسؤولية علينا، ونسلم بكل بساطة بالتفسير التآمري للتاريخ، وعندها يأخذ العقل المنطقي “كومن سنس” إجازة مفتوحة ويريح نفسه من عناء البحث والتفكير، هناك طبعاً مكان للمؤامرة في التاريخ السياسي، لكنه لا يأخذ كل الزمان.
هنا لابد من ملاحظة عابرة أن مجلة الإيكونوميست ذاتها نشرت في مثل هذا الشهر عام 90 مقالاً افتتاحياً بعنوان “قبائل ترفع أعلاماً”، أنكرت فيه بصورة مجملة وجود الدولة الأمة (نستثني تركيا ومصر وإيران)، وتقرر بأن المنطقة لم تنضج بعد لمرحلة الدولة، وبعد مرور أكثر من ربع قرن نجد أنفسنا أمام تحقق هذه النبوءة حين اشتعلت حروب الطوائف والأعراق القومية، وكلها يمكن أن نضعها تحت بند “الحالة القبيلة” التي بها تتحقق هوية الانتماء للدين والطائفة والعرق القومي، وتقديم تلك الولاءات قبل الولاء للدولة التي بطبيعتها ليست محايدة كما يفترض، وتتشكل من تناقضات هذه المجتمعات.
أيضاً تذكر المجلة أوضاع دولنا الاقتصادية المزرية الآن واعتماد أغلبية شعوبها على الإنفاق العام المتحقق من ريع النفط (بمعظم الحالات)، وهنا ينفتح المجال لقيام الدولة التسلطية، التي تملك الأرزاق أساساً والأعناق بالتبعية، وتنصح (المجلة التي يمكن أن تصنف اقتصادياً في خانة اليمين) بنظام السوق، مع الرقابة المشددة للدولة، كي لا تكون قوانين السوق المفتوحة صوراً للفساد وهيمنة “باروناته” على مفاصل الاقتصاد كما هو حادث الآن.
أياً كان مستقبل المنطقة واحتمال قيام دويلات مثل “كردستان وسنة ستان وشيعة ستان” بالعراق وسورية ومعهما غداً بقية دول عربية ستجد مسارها للتفكك حسب الهويات الطائفية والعرقية، وخضوع بعضها لتنظيمات إرهابية مثل داعش أو غيره، يبقى على أنظمة الحكم العربية الحالية التي تصورت أنها انتصرت على انتفاضة الربيع العربي، أن تتعظ مما يجري الآن وتصلح من حالها بالانفتاح على شعوبها وتحكيم دولة القانون والعدالة، قبل أن يحكم عليها التاريخ بحكم جيرانها الدامي.