عرفت الجمهورية التونسية منذ سبعينيات القرن المنصرم جملة من الأسباب والظروف التي شكلت فرصة لظهور التيار الإسلامي ، أولها : إطلاق سراح أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في عهد أنور السادات ، ثانيها : فشل مشروع الحكومة الإقتصادي – تجربة التعاضد – في عهد الحبيب بورقيبة ، ثالثها : ضعف و تراجع تأثير الفكر القومي أو الناصري ؛ مما شكل صدمة إيديولوجية لدى بعض التيارات السياسية والشباب التونسي بصفة عامة ، ورابعها : عزل الجنرال الفرنسي شار ديغول عن الحكم في 1969م . لقد مهدت هذه الأسباب ظهور حركة إسلامية سلطت الضوء على إشكالية مشروع التحديث البورقيبي وما يحمله من أثر سلبي على الهوية الإسلامية والعربية ؛ فإنطلقت منها لمقاومة التغريب الهوياتي ، واختارت هذه الحركة بعد ذلك اسم الجماعة الإسلامية. وارتكز نشاط هذه الجماعة في بداية الأمر على الدروس الدينية والخطب الوعظية ونشر المقالات الدينية من خلال بعض المساجد التونسية والدور الثقافية . والجدير بالذكر أن ( جمعية المحافظة على القرآن الكريم ) كانت الإطار الذي عملت به الجماعة الإسلامية لممارسة أدوارها السابقة ، الأمر الذي ساعدها على تسجيل ظهور بارز ولافت في المجتمع التونسي . و تطور عمل هذه الجماعة بعد تأسيس مجلة ( المعرفة ) التي كانت منصبة على المقالات الدينية و الفكرية الإسلامية ، إلا إن هذه المجلة أبرزت بداية تبلور الفكر السياسي لدى الجماعة الإسلامية عندما كُتب مقالاً أُنتقد فيه فكرة الوحدة بين تونس و ليبيا في عام 1974 م .
وشهد مسار الجماعة الإسلامية تغيراً مهماً ، بعد حادثة الإنتفاضة العمالية – الخميس الأسود – عام 1978 م ، عندما أعلن الاتحاد العام للشغل برئاسة الحبيب عاشور ، الإضراب العام عن العمل بسبب رفض النظام البورقيبي المطالب العمالية والنقابية . ومن هذا التاريخ يمكن القول أن الحركة بدأت بمراجعة أفكارها و مواقفها التي أبعدتها عن المسألة السياسية و الإجتماعية والإقتصادية ، ويذكر الشيخ راشد الغنوشي في هذا الصدد ((أن الحركة الإسلامية كانت بعيدة عن مشاكل طبقة العمال ، ولم تفهم طبيعة هذا المجتمع ومطالبه ، ولعل ذلك يعود إلى بُعد الحركة عن الواقع الإجتماعي وعدم التفاعل معه )) .
إن تأثير البضاعة الفكرية المشرقية – وخاصة أطروحات أبو العلاء المدودي و حسن البنا و سيد قطب – على الجماعة الإسلامية جعلها تصطدم مع الواقع الثقافي التونسي الرافض لهذه البضاعة الوافدة كما يصفها الشيخ راشد الغنوشي . و لهذا السبب تجاوزت الجماعة الإسلامية الإطروحات الإخوانية الفكرية ، وبحثت عن أفكار تتناسب مع طبيعة المجتمع التونسي من بينها كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي حول النهضة و التحليل الإجتماعي والإقتصادي في الإسلام ، و نظرية المفكر المغربي علال الفاسي حول مقاصد الشريعة الإسلامية ، بالإضافة إلى الاستفادة من التجربة السودانية الإسلامية – خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة – التي تزعمها الشيخ حسن الترابي .
وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران وإسقاط نظام الشاه ، وجدت الجماعة الإسلامية ضالتها في إمكانية نجاح فكرة الدولة الإسلامية ، وحملت الحركة الطلابية الإسلامية هذه الفكرة بين أوساط الجامعات التونسية لتكتشف بعد ذلك مصطلحات وأفكار ومذاهب سياسية جديدة على معجمها السياسي ( كالإمبريالية و التبعية و الليبرالية و الشيوعية … الخ ) ؛ ومن هنا انتقلت الجماعة من طور التبليغ و الدعوة إلى طور الحركة السياسية بعد تغيير إسمها من الجماعة الإسلامية إلى حركة الإتجاه الإسلامي في بداية الثمانينات . ولم يقف هذا التبلور السياسي في فكر الحركة عند المشاهد السابقة ، بل استمر وأصبح أكثر وضوحاً بعد الإنقلاب الأبيض على بورقيبة و وصول بن علي إلى سدة الحكم في 1987م ، وعندما غيرت اسمها للمرة الثانية إلى حركة النهضة بسبب قانون الأحزاب الذي يمنع أي مسمى إسلامي ، والتنازل عن الصفه الإسلامية لم يكن وفق قناعة و خيار الحركة .
وبعد ثورة الياسمين التي أسقطت حكم بن علي في يناير 2011م ، التم شمل الحركة بعد فراق تجاوز عقدين من الزمن ، لأن جزء منهم كان في المهجر ( راشد الغنوشي ) والجزء الآخر مابين السجون ( علي العريض – حمادي الجبالي ) و الإقامة الجبرية ( عبدالفتاح مورو ) . ومنذ عام 2011م ، ومروراً بالإعتراف القانوني بحركة النهضة و حتى الوقت الراهن شهدت الحركة عدة تطورات و تحولات فكرية و سياسية اتضحت من خلال تجربتي الحكم التوافقي ( تجربة الترويكا الأولى و الثانية ) ، والتنازلات التي قدمتها النهضة في صياغة الدستور والمصادقة عليه ، والتنازل السلمي عن الحكم في يناير 2014م ، وفق صيغة خارطة الطريق التي وضعها الرباعي الراعي للحوار الوطني . وبسبب ماسبق جددت حركة النهضة من فكرها حتى تم الإعلان عن الفصل بين الجانب الدعوي والسياسي – وهو ما سيتم طرحه في مؤتمر الحركة العاشر المزمع عقده في 20 مايو 2016م في تونس – ، ويعود هذا التطور والتجديد الفكري أيضاً إلى طبيعة الثقافة التونسية المتعددة والمتنوعة ، وإلى المراجعات الفكرية التي أفضت في نهاية المطاف إلى رفض الحركة مسألة التمايز عن المجتمع التونسي بصفة إسلامية هي بالأخير تمثل الهوية التونسية . وعلى ضوء تجربة حركة النهضة يمكن القول أن هناك مساحات واسعة للتجديد في الفكر الإسلامي ، يمكن توظيفها في خدمة الصالح العام ، و تعزيز ثقافة البناء ، والتعمير، أفضل بكثير من التردد الفكري ، وإنتاج ما يتسبب في تراجع هذه الأمة الإسلامية .
آخر مقالات الكاتب:
- ساعة مع الغنوشي
- من هم الإسلاميون التقدميون؟
- الإسلاميون والكماليون في تركيا: صعود الهامش وتراجع الأساس
- الحشاشون في المخيلة الروائية
- قراءة في قرار مشاركة “حدس”
- وعود حزب النهضة التونسي
- حزب حركة النهضة التونسي : من خيار الدمج إلى خيار الفصل
- أزمة الفكر العربي
- قراءة لقصة مناضل يعيش بيننا الآن
- لم تكن سجيناً يا أبا حمود