يُحكى أنه في إحدى المدن الممتلئة بالغابات؛ خرج رئيس الصيادين فيها في رحلة صيد يقتنص فيها ما يمكن أن يصطاده من الحيوانات والطيور، وقد بدت عليه حالة الحزن وضيق الصدر، فسأله أحد معاونيه ما بال مزاجك اليوم مكفهرا ولست مبتهجا؟! فأجابه قائلا إنه قد سُمح لكل الصيادين أن يقوموا برحلات الصيد في الغابات، وهو ما سيقلل فرص الصيد التي كنا نحظى بها في السابق، وأراد هذا المعاون أن يُهوّن على كبير الصيادين همّه، فطرح عليه السؤال التالي: هل رأى أحدكم يوما من الأيام أسدا حزينا على أن تأتي من بعده الضباع والطيور الجوارح حتى تأكل من فتات فريسته أو من جيفتها بعد أن يكون قد أنهى وجبته منها؟! فأجابه رئيس الصيادين ومن معه قائلين: بالتأكيد لا يمكن أن يكون الجواب نعم. وأكملوا إجابتهم مضيفين أن الأسد بمكانته وطبيعته لا يضيره أن تأكل الضباع من فُتاته، بل إن الأسد وهو يرمق الحيوانات الأخرى وهي تتدافع لتأكل من فتات فريسته تجده منتعشاً فرحاً أنه بحكم قوته وسطوته وهيبته تخشاه تلك الحيوانات، وهنا ردّ عليهم هذا المعاون قائلا: إذاً حتى تتميز قدرتكم على الصيد ومهارتكم في التفوق على الآخرين؛ فإن وجود الصيادين الآخرين يجب أن يكون أمرا مفرحا بالنسبة إليكم؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى الأسد، وهو ما يعطيكم قوة وتميزا يرفعان من مكانتكم ويوضحان بجلاء قدراتكم المتفوقة.
إن البلد اليوم قد ابتلي في مواقع كثيرة للمنافسة التجارية والمناصب القيادية والوظائف الحكومية، بالعديد من الأشخاص الذين ابتلوا بأمراض الحسد وضعف النفس وضيق التفكير؛ لأنهم اعتادوا أن تُمنح لهم حالة من الاحتكار للتجارة أو المحسوبية في تولي منصب أو المجاملة في الوظيفة التي يتولونها، فأحدهم يصبح تاجرا ليس بالضرورة بسبب تميزه وقدراته وحسن تدبيره وإدارته، وإنما مُنح وضعا جعله محتكرا بتجارة معينة أو لعقود محددة، فاكتسب صيتا وسمعة وغنى ربما ليس له فضل فيها؛ وإنما كان ذلك بأسباب لا دخل له بها ولا لقدراته، وهو اليوم لا يقبل بالمنافسة، ولا يجرؤ على أن يدخل مجالات دخلها آخرون، لأنه سرعان ما سينكشف وتذهب قدراته، لذا فإنه يلجأ إلى أساليب تشبه أساليب الضباع التي تحاول أن تأكل من فتات موائد الآخرين أو تقتات من الإساءة إليهم.
وكما هي الحال بالنسبة إلى التاجر، أصبح بعض أصحاب المناصب والوظائف الحكومية اليوم يكرهون من يُبدع ويفكر وينتج ويعمل ويكرس وقته وجهده لعمله، بل إن بعض اصحاب المناصب والوظائف الحكومية يحاصرون من يخلص في عمله ويتميز في أداء مهامه، فيحاولون أن يشيعوا عنه كل ما يسيء إلى سمعته، ولا يملكون أن يتخطوه أو يتفوقوا عليه إلا باستخدام داء الواسطة في تحسين تقاريرهم من رؤسائهم، أو في ترقيتهم إلى الدرجات الأعلى، والأسوأ من ذلك كله في ترشيحهم للمناصب القيادية التي يتعينون فيها وهم لا يملكون مؤهلاتها، فشاعت لدينا ثقافة الضباع التي لا تكتفي بأن تقتات على فتات موائد الآخرين، وإنما تخشى الظهور في وضح النهار وتتسلل إلى الأماكن المختلفة في جنح الليل المظلم، حتى تتوارى عن العيون وهي لا تملك القدرة ولا الجرأة أن تمارس شؤون حياتها في وضح النهار وأمام الجميع.
وهكذا أصبحت لدينا حالة من الإحباط وكسر للعزائم وقتل للهمم، وانعدمت المنافسة، لأن المجتمع لم يعد فيه من الأسود ما يكفي لإشاعة ثقافة النفس الحر والقبول بوجود الأقوياء، فشاعت لدى البعض في المجتمع ثقافة الضباع القائمة على الغدر والاقتيات، والخسة بطباع الحسد والنميمة والوشاية بالآخرين حتى صار ذلك أحد أسباب تدني أحوال المجتمع. ومع غياب سياسة الثواب والعقاب وتراجع مكافأة المجتهد وتميز المبدع، صارت حالة الاتكالية وانتظار الحصول على الفتات هي السائدة بكل أسف.. اللهم إني بلغت.