“الواقع الذي كنا ندركه لم يعد موجوداً، فالمنازل والشوارع والطرق كلها تبحر بعيداً مع الزمن، واأسفاه على تلك السنوات. الأماكن التي اعتدناها لا تنتمي إلى مساحة حددناها في زمن آفل، هي صورة ملتصقة في الذاكرة لزمن مضى” (ترجمتي لفقرة من “البحث عن الزمن الضائع أو الغائب أو المفقود” لمارسيل بروست عن الترجمة الإنكليزية لأرثر غولدهامر بكتابه المصور عن الرواية).
بروست على لسان الراوي لا يكابد الحنين “نوستلجيا” لزمن الأمس للماضي، بل يتحسر على غياب المكان، حين طوته صفحة من كتاب الزمن، وهو كتاب لا ينتهي ولا نعرف من أين بدأت أول كلماته. الراوي يتحسر على ضياع أماكن ذكرياته الجميلة في الحديقة والغابة التي التقى فيها جلبرت وعشقها أيام طفولته، لم تكن حسراته على جلبرت ابنة سوان، بل على رحيل تلك الأماكن وضياع معالمها، هي المساحات التي أحب فيها، ونحتت ذكراها على حوائط وجدانه، فالمكان هو المساحة التي ضاعت، وهو ينبش عنها في تلافيف الزمن، يقلب ذكرياته عله يجدها.
نحن أيضاً، نتحسر على المكان الغائب، فالشاعر وضاح مثلاً، يلعن الدائري الرابع وزحمته ومخالفات الكاميرا في قصيدته بـ”الجريدة” أمس الأول، صديقي الشاعر يلعن المكان بالكاميرا، وكأننا أصبحنا أرقاماً مصورة بألبوم وزارة الداخلية، ربما لا يذكر وضاح “دوار الشعب” في الستينيات (دورة الشعب) وهو نهاية الدائري الرابع، ولعله المساحة الوحيدة التي كانت تزدحم بالسيارات في أوقات “الذروة”، فقط في “زمن الذرة” كانت “الدورة” تزدحم بالسيارات، التي كانت تصب فيها من أربعة اتجاهات، ثم تتفرع لشوارع فسيحة لا تزينها أشجار النخيل المنسية، ولا تحاصرها أرصفة أسمنت الخط السريع البطيء العالية.
هل صحيح كان زمن “دورة الشعب” المزدحمة أحياناً هو الزمن الجميل؟ بالتأكيد، الدوار كان مزدحماً أحياناً، لكن الكويت لم تكن مزدحمة، لم تكن قلقة… قد تكون قلقة قليلاً وأحياناً، لكنها، لم تكن قلقة على برميل النفط، لم تكن قلقة من ناسها وتطلعاتهم ونهم بعضهم أو كثير منهم، كانت هناك راحة حياة برجوازية صغيرة وبسيطة، لم تكن تقلق من الغد، وهذا طبعاً خطأ وقلة وعي (ربما)، ولعلها كانت قلقة قليلاً أو كثيراً من مكانها أي جغرافيتها الصغيرة، وخشية أن تبتلع من جار كبير، وهذا طبعاً حدث، أو كانت قلقة من أن يملي عليها جار آخر أوامره كشرط مسبق من شروط الجوار والقوة… لكنها لم تكن، كما قلت وكما أتصور بسذاجة، قلقة على وجودها.
الآن، وبحكم الزمن، وبعدوى مرض القلق وفيروسات الفساد والتواكل، انتقل هذا القلق إلى سكانها وبات في عظامهم… يقلقون خشية القادم، يقلقون من ضيق العيش، يقلقون من رياح تهب على سفينتهم فتغرقهم في أمواج خليجهم “العالية”، مع أن خليجهم ضحل، شديد الضحالة حتى الهدوء الممل القاتل.
أهل الكويت يقلقون (أو يفترض بهم القلق حسب منطق الأمور في زمن من غير منطق وبلا أمور) من كاميرات بالشوارع وكاميرات أخرى على الكلمات… كاميرات على التعبير وحتى على التفكير… كاميرات من الشمال ومن الجنوب، ومن الشرق ومن الغرب، والأهم هناك كاميرات من الأسفل للأعلى ومن الأعلى للأسفل… هل أضحى اسم الديرة “كاميرا كانون” تلتقط صوراً على مدار الساعة لشارع بن عكشان وبن طفشان وبن تعبان… لا تتعبوا أنفسكم مع أسماء الشوارع، أغمضوا أعينكم، واختاروا أي اسم عشوائي وستجدون شارعاً مزدحماً باسمه! ديرة خير وبركة ووفاء ولا تنسى أحداً من أبنائها.
لم يعد هناك فسحة المكان… الزمن، العمر، التهم بشراهة المكان، وفي عمق الذكريات، تبقى الروح، تبحث، تنبش، تقلب الصفحات، تبحث عن مساحة ليست مزدحمة… تبحث عن فسحة فراغ، تبحث عن “براحة” فضاء، ليس بها كاميرات… لا تجد!