مع سقوط الاتحاد السوفييتي والماركسية معه وهي المروج الأكبر للقطاع العام وتملك وسائل الإنتاج، اعتقد العالم أن التوجه للخصخصة هو الوصفة السحرية لكل مشاكل الاقتصاد ومعاناة الدول، في المقابل صدر في منتصف التسعينيات تقرير مهم لمجموعة خبراء دوليين تابعين للأمم المتحدة، ذكروا فيه أن قطاعا عاما يدار بكفاءة وأمانة خير ألف مرة من قطاع خاص تجتمع على إدارته الحرمنة والحمرنة مستغلة ضعف الرقابة الحكومية، وما حدث في الولايات المتحدة عام 2008 خير دليل على أن الخصخصة بذاتها دون خطوات تختص بكفاءة وأمانة الإدارات الحكومية لن تصلح من أحوال دول المنطقة مع انخفاض أسعار النفط إلى أجل غير مسمى.
***
التقيت قبل أيام في حفل عشاء أقامه رجل الأعمال الصديق محمد النقي بدكتور فنلندي يعمل بكلية الطب في جامعة الكويت، وفنلندا تملك أحد أقوى الاقتصادات في العالم ومعها أفضل الخدمات التعليمية والصحية التي يمكن توافرها، والخدمتان مملوكتان بالكامل للدولة هناك، ويقول الدكتور ان أفضل من تشتري منه سيارة أو منزلا هو الفنلندي لأن الصدق والأمانة غرسا به منذ الصغر (عكس شعوبنا)، لذا فلن يكذب عليك أو يغشك، ويستغرب الدكتور من مناهجية تعاملنا مع أعراض الأمراض لا محاولة الحد من أضرارها بشكل جذري، فيتساءل: لماذا تتعاملون مع حقيقة تفشي الأمراض المزمنة الخطيرة في أجساد مواطنيكم عبر الاكتفاء بإعطائهم أدوية ما بعد الإصابة بدلا من محاولة تغيير نمط حياتهم وغذائهم منذ الصغر لمنع الإصابة كما حدث في فنلندا؟!
***
وتظهر تجارب دول مثل الصين وسنغافورة وماليزيا والإمارات وقطر أن حل ترهل وفساد القطاع العام يتم أولا بإصلاحه وإدارته بطريقة إدارة القطاع الخاص الناجحة (وليس أي قطاع خاص) كي يتحول من عالة على الاقتصاد العام إلى إضافة له، وقد استمعت قبل أسابيع لبروفيسور اقتصاد ألماني مختص بدول الخليج وهو يقول ضمن محاضرته في الجمعية الاقتصادية الكويتية: إن إصلاح الميزانيات الخليجية التي أصابها العجز بسبب انخفاض أسعار البترول عبر بيع وخصخصة القطاعات والشركات قد يكون سياسة قصيرة النظر وغير ناجحة، فالقطاعات السيئة والخاسرة قد لا يشتريها أحد أو تشترى بأبخس الأثمان وتنفع لمرة واحدة فقط، أما القطاعات الجيدة والشركات الرابحة فستخسر الدولة عبر بيعها مواردها وعائداتها السنوية إلى الأبد، ومن ثم تضعف قدرة الدولة على تمويل تطوير بلدانها!
***
إن الطريق الوحيد والأمثل للتعامل مع الإشكال الاقتصادي المالي في الكويت والمنطقة لا يكمن في بيع مشاريع الأحلام والاستماع لوعود وأقوال الأوهام أيا كان قائلها وصفته، حيث لا نعلم حقيقة أجندته، فالمسكنات الكلامية هي أفضل طريق لإخفاء أعراض الأمراض الخطيرة والتعجيل بموت الأفراد والدول، هو بتغيير طريقة إدارة الدولة والاعتماد على الإدارات الكفؤة والمخلصة والأمنية وتقليدها المراكز المتقدمة في الدولة، فقد نجحت دول بأفكار وأعمال شخصيات متميزة مثل السنغافوري لي كوان يو، والماليزي مهاتير محمد، وقبلهما الصيني دنغ شياوبنغ وغيرهم، وفي المقابل دمرت دول تملك كل مقومات النجاح مثل العراق وليبيا بسبب قيادات مثل صدام والقذافي..
***
آخر محطة:
(ا) تشذيب وتهذيب وإصلاح القطاع العام يجب أن يكون مقدما على «بيع الجمل بما حمل» ونهج «خذوه فغلوه ولأي مشتري أعطوه»، حيث إن هناك كلفة سياسية واجتماعية واقتصادية باهظة، حيث سيتم التخلص من العمالة الوطنية بالشركات المبيعة، وهي المحرك الأول للاقتصاد المحلي لصالح عمالة هامشية تخرج المليارات من البلدان.
(2) حتى نجعل الشعار المرفوع مطابقا للفعل قمنا شخصيا بتطبيق معايير الإدارة الحديثة وتعيين الأكفاء والأمناء والابتعاد عن تعيين المعارف والأقارب وترشيد الإنفاق واستجلاب أفضل الخبرات والعقول، ولقينا جزاء «سنمار»، فالفهم السائد هو «العصا للمجد والجزرة للمخفق»، واعطونا بلدا يمكن أن ينجح وينمو عبر تطبيق تلك الوصفة المعكوسة!