زرت الجمهورية التونسية قبل بضع سنوات، فدعانى السفير الكويتي هناك -وكان وقتئذ- الأخ العزيز «سهيل شحيبر» إلى غداء شعبي من التراث المحلي داخل مطعم يطل على مياه البحر المتوسط الرائعة، وكانت «الأكلة» اسمها..«علوش..بالقله»!!
ما هو «العلوش»؟ إنه الخروف باللهجه التونسية، وما هي «القله»؟ هي «البرمة» بالكويتي و«القلة» بالمصرى، مصنوعة من الفخار والطين المحترق!!
إذن؟ يتم وضع قطع من «العلوش» داخل «البرمة» ويدس فوقه البصل والطماطم وخضار مشكلة مع البهارات والملح، ثم تغلق فتحه «القله» بعجين مصنوع من الدقيق والماء، وتوضع هذه «البرمة» داخل فرن يشتعل على الحطب لمدة ثلاث ساعات حتى..ينضج!!
هل انتهت الحكاية؟! ليس بعد! بعد أن تخرج «القله» من الفرن توضع فوق صينية مستديرة كبيرة وتحمل إلى طاولة الزبون الجائع ومعها…سيف، هذا السيف أطول من «ساطور-القصاب» بقليل، يمسك به الجرسون، وبضربة واحدة فنية لا تنقصها الخبرة يضرب بها «البرمة»، فينساب «العلوش وخلطته اللذيذة» على الصينية، وحين تقول «ضربه فنية» فهذا يعني أن «القله» تنكسر لجزئين كبيرين دون أن تتناثر شظايا الطين الفخارى المحترق على اللحم، وبالطبع، و..«كأنك ما تدرى»، يكون بجانب هذا الطبق اللذيذ، صينية آخرى مليئة بـ«العيش المشخول والمغطى بالزعفران»، ومعه «الهريسه» التونسية الشهيرة -أو «المعبوج بالكويتي» سوف تمسح المائدة مسحاً ثم تنظر إلى السماء وتقول..«مين طفى..النور» مع إن الوقت..ظهراً!!
الرئيس التونسي الراحل «الحبيب بورقيبه» كان من حكماء العرب، لكن العرب مثل «الثورات تأكل أبناءها على الدوام»!!
رجل مناضل ومقاتل عنيد، تصدى لمن احتل بلاده، ونهض بها من العدم، وقفز بالبلد من أدنى السلم الإجتماعى والاقتصادى والعلمى إلى..أعلاه!
زار«الضفه الغربية» حين كانت تحت الإدارة الأردنية عام 1965 -وقبل احتلالها من الإسرائيليين عام 1967- ومن منطقة «أريحا» أطلق تصريحه الشهير: «حافظوا على ما تبقى من فلسطين، اقبلوا بقرار التقسيم الدولي وأعلنوا الدولة الفلسطينية الآن قبل فوات الآوان»!!
هاج عليه عرب «الصمود والتصدى والممانعة» واتهموه بالخيانة والعمالة لإسرائيل والغرب وسكان المريخ، وتدافع باعة الشعارات يصرخون عليه: «فلسطين لنا من البحر إلى النهر»، و..«يا فلسطين جينالك…جينا وجينالك» إلى آخره!!
الذى قاد الهجوم العربى الشامل ضده كانت إذاعة «صوت العرب» أيام الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر»، فاشتد غضبه، وألقى خطبة عصماء أمام جماهير تونس -ذات يوم- من أطرف ما فيها -وكان يرفع رأسه على الدوام بسبب قصر قامته- «عبدالناصر حارب الإنجليز، وأنا حاربت الفرنساوية، عبدالناصر قاتلهم في السويس، أنا قاتلتهم في..بنزرت، عبدالناصر طويل…ألبس له كعب عالى»!!
زوجته اسمها «وسيلة» وكانت سيدة حديدية يهابها الجميع علماً بأنه لم يرزق منها بأبناء، لكن لديه ولد يقال إنه من سيدة فرنسية تعرف عليها أيام المنفى في فرنسا، المهم إنه عادة ما يذكر اسمها في خطاباته الجماهيرية، فيصفق عشرات الآلاف من التوانسه لها، وذات يوم خطب في مناسبة وطنية خطبة عصماء عن ضرورة تنمية الوطن والدخول إلى عالم الصناعة والتطوير و..و..و،إلى أن قال: «لابد من -وسيلة- لبلوغ هذا الهدف»، وهنا، صفق الآلاف من التوانسه -بعد أن سمعوا اسم «وسيلة»- فما كان منه إلا صرخ فيهم قائلاً: «الله يخرب بيوتكم، أنا قصدى وسيلة يعنى طريقه مش وسيلة..مراتى»!!
أبلغنى أحد الوزراء التونسيين بردة فعله حين أبلغوه صباح يوم الثانى من آب 1990 باحتلال صدام حسين الكويت -وكان متقاعداً خارج السلطة يرتاح في منزله بمسقط رأسه بمدينة «المنستير» عقب انقلاب «زين العابدين بن على» على نظامه -فصمت لدقائق ثم قال لمحدثيه: «صدام احتل الكويت؟، هذا معناه إن المنجل دخل القله، المنجل ميطلعش إلا نكسر..القله»!!
وتحقق وصف ذلك الرجل العجوز والحكيم، تم تكسير «قله» العراق وجيشها على رأس الحزب الحاكم، وأخرج «صدام-المنجل» من الكويت بعد أن جعلها…«قاعاً صفصفاً»!!
رحم الله «الحبيب بورقيبه» الرجل الذى قاتل الفرنسيين و..«يريد يلبس كعب»!!
فؤاد الهاشم