..حين زار الأمير الوالد الشيخ «حمد بن خليفة» وحرمه صاحبة السمو الشيخه «موزة بنت ناصر المسند» الكويت قبل أسابيع، خطر ببالى أن أبعث برسالة قصيرة لمسؤول صديق فى إحدى جهات المراسم طلبت منه فيها إن كان يستطيع تدبير لقاء صحفى لى مع الشيخ «حمد» فى حديث ذو شجون وشؤون وهموم، فأضحكنى كثيراً بجوابه فى الرسالة النصية التى بعثها وقال فيها: «ناوى تطلعنى تقاعد..مبكر»؟!.
المهم، لم يتحقق المراد، فقررت الاستعاضة عنه وطرح ما كنت أريده بواسطة ذلك «القسم» الذى أقسمه رب العالمين فى كتابه العزيز حين قال: «نون والقلم وما يسطرون»، فأخذت «القسم» -أو القلم- وبدأت اكتب الآتى:
..سمو الأمير الوالد الشيخ «حمد بن خليفه»:
..ما بين عامى 61 و 62 من القرن الماضى، ظهر جهاز «عجيب وغريب» فى الكويت وبعدد قليل من المنازل أطلق عليه أهل الكويت اسم «تلوزيون»، وهو تحريف لاسمه الأصلى الذى لم تعتد عليه الألسنة، وكذلك الأعين، فى مجتمع كويتى بسيط ثارت الشائعات بأن «المذيع-الرجل» يستطيع ان ظهرعلى الشاشة أن يرى النساء الجالسات فى المنزل، وظهرت شائعة نسائية أخرى تقول إن «المذيعة تمد يدها عبر الشاشة وتسلم على النساء فقط»!!
كان المجتمع الكويتى -فى ذلك الوقت- يتكون من ثلاث طبقات: الأولى طبقه قادرة مادياً ومنفتحه، فاشترت هذا الجهاز وأدخلته البيت!
الثانيه: طبقه قادرة مادياً لكنها محافظة، فلم تدخل الجهاز للبيت!
الثالثة: طبقه فقيرة مادياً لا تستطيع شراء جهاز، فتكتفى بالراديو «أبو بطارية» أو «بشتخته الاسطوانات»، وكفى الله المؤمنين شر التلفزيون!
أنا كنت طفلاً فى الثامنة -زمن بدايات التلفزيون- ومن طبقه قادرة مادياً ومنفتحه، فأدخلنا التلفزيون، وكانت النتيجه ان الأطفال الذين من الطبقه الثالثة اعتادوا على دق أبواب المنازل التى تزينها التلفزيونات للاستئذان والجلوس فى الحوش ومشاهدة هذا الجهاز العجيب الذى تظهر فيه النساء والرجال وأحصنة فرسان الكابوى والأفلام السوفياتيه الحربية القديمة وهو ما اعتاد تلفزيون الكويت على تقديمها ،ولأننى طفل «متملك بطبعى»، فقد كنت أحاول -قدر الإمكان- أن أمنع دخول الأطفال لمنزلنا، وما زلت أتذكر أنوفهم الصغيرة وهى عالقه بين دفتى باب بيتنا الحديدى، وعيونهم شاخصة إلى الداخل حيث يظهر بياض شاشة ذلك الصندوق الذى يحلمون بالدخول إلى جوفه ومعرفة أسراره!!
بالطبع، بوجود الوالد -رحمه الله- لم أكن أجرؤ على منعهم، بل يأمرنى بفتح الباب وتركهم يستمتعون لساعة أو ساعتين بمشاهدة «ميكى ماوس وبطوط وأولاد أخيه الثلاثة»!!
دارت الأيام، وبلغت من العمر أحد عشر أو اثني عشر، الوالد اشترى قطعة أرض فى البصرة التى تبعد عن منزلنا فى الكويت مائة وعشرة كيلو مترات فقط، وتقع على «شط العرب»، ذلك الشط الذى سقت مياهه أهل الكويت لعقود طويلة قبل أن يحيل «حزب البعث» و«صدام حسين» كل شئ عذب وصافى فى العراق إلى ملح وظمأ ودم!!
قرر الوالد اصطحابى معه فى سيارتنا الخاصة إلى البصرة، ولكونى الابن المدلل، فقد إشترى «مطارة» -أو«ترمس»- كما يسميه أهل الشام والذى يحفظ الثلج ثم يدس بين قطع الثلج حوالي عشرة أو خمسة عشر «آيسكريم-والز» ويسمونه «أبو-عود» ويحمل نكهات البرتقال والليمون والموز والتفاح فقط..لاغير!!
الوقت صيفاً فى شهر تموز، ندخل «البصرة» ثم «العشار» وكان ذلك عام 1963 أو1964، وأسمع الوالد يقول لى: «هذه هى البصرة لا تتغير -ولن تتغير- منذ أيام الحسن البصرى الذى عاش فيها ومات فى القرن الثالث الهجرى»!!
..سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه:
ما ان يرى أطفال لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والسادسة سيارة أميركية فاخرة -فى ذلك الزمن- تحمل لوحة مرورية كويتية حتى يتجمع حولها العشرات منهم حفاة، عراة، ألوان جلودهم تختلف بين الذراع والرقبة والساق ورؤوس لم يمسسها الماء مع إن لديهم ثلاثة أنهار!
أوصافهم يطول شرحها، لكن ما جذبهم أكثر الينا هو رؤيتهم من وراء زجاج السيارة «طفل كويتى مترف يلحس عود ايسكريم» بينما الأرض تشتعل ناراً تحت أقدام هؤلاء الصغار ونحن فى منتصف شهر تموز!
الوالد -رحمه الله- كان يضغط بقوة على الفرامل ويوقف السيارة التى أصلاً بالكاد تسير لضيق الشارع وسوء حالته، ثم يطلب منى أن أفتح زجاج نافذتى وأعطى أربعة أو خمسة من أعواد الأيسكريم لأربعة أو خمسة من هؤلاء الأطفال!
صحيح ان أوامره تلك لم تكن تعجبنى لأنه يستنزف «رصيدى» من هذه «المادة المثلجة» فى ذلك الجو القائظ لكننى كنت أنفذ على الفور!!
حين فرض الحصار على العراق أيام «صدام» كنت أضحك من خطاباته التى يتهم فيها الغرب قائلاً: «يجوعون ويقتلون أطفال العراق»!
كنت أشاهد أطفال العراق وهم جوعى وحفاة وأنا فى سن الطفولة مع والدى، وشاهدتهم حفاة وعراة وجوعى، وأنا فى سن الشباب أزور العراق بسيارتى الخاصة، وشاهدتهم وهم حفاة وعراة وجوعى، وأنا أزور العراق أثناء حربه مع إيران وإلى ما قبل الغزو بشهرين، زرت البصرة لأتفقد أرض الوالد، وإذا بأطفال حفاة وعراة وجوعى يلاحقون سيارتى ويشبهون الذين لاحقوا سيارة والدى قبل ثلاثين..سنة!!
سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه..حفظه الله:
فى عام 1985، تلقت الجريدة التى كنت أعمل فيها كاتباً صحافياً دعوة من الحكومة الألمانية الغربية لزيارة المنشآت الطبيه والعلاجية فى عموم بلادهم، فرشحونى..فذهبت، وكانت الدعوة لخمسة أيام وقد وجهوا الدعوة لصحافى سعودى وآخر إماراتى، فزرنا مراكز طبيه رائده فى «آخن» و«فيسبادن»، و«هامبورج» وحتى «شتوتغارت» و«فرانكفورت»، لقد أرادوا إحياء «السياحة العلاجية» وسحب البساط من «الإنجليز»، فلم يجدوا زبائن أفضل من هذه الدول الخليجية الثلاث!!
كانت شركة طيران «اللوفتهانزا» هى الناقل والراعى والداعى هو رئيس بلدية «بون» العاصمة -فى ذلك الوقت- وحدث فى الليلة الأخيرة أن دعونا إلى عشاء فخم ضم عدداً من الدبلوماسيين والسفراء المعتمدين منهم السفير الأميركى ودبلوماسي سوفياتى و«شوية من سفراء حلف وارسو وشوية من حلف شمال الأطلسى»، كان اسم البلد فى ذلك الوقت «ألمانيا الغربية» وهناك على مسافة بضع مئات من الكيلو مترات تقع نقطة «شارلى» العابرة «لألمانيا الشرقية» حيث أقوى جهاز مخابرات فى أوروبا والمسمى بـ..«شتازى»!!
أكرمنا الداعى الألمانى «الغربى» وأجلسنا نحن الثلاثة القادمين من ثلاث دول خليجية على الطاولة الرئيسية التى تضم السفير الأميركى ويجاوره السوفياتى، ثم سكرتير ثالث لسفارة بولندا وهى حسناء ذات جمال منقطع النظير لدرجة اننى والسعودى قمصاننا وربطات عنقنا ارتوت من الشوربة أكثر مما ارتوت أفواهنا، ونحن لا نكاد نبعد أنظارنا عنها إلا..عندما صفق السفير الأميركى بيديه معلناً رفع كأسه بنخب ضحكنا عليه حين قال: «نخب عشرات الآلاف من المرضى الأثرياء الذين سيأتون إلى ألمانيا من الكويت والسعودية والإمارات»!!
سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه..حفظه الله:
سموكم تعرفون وقاحة الأميركيين، إذ ما ان ارتشف نخبه حتى قال: «لدى نكته أريدكم أن تسمعوها: يحكى إن قطة كانت تملكها ضابطة فى جهاز المخابرات الألمانى الشرقى -شتازى- وكانت تحبها كثيراً وتعطيها من أطايب الطعام الذى لا يمكن توفيره إلا للنخبه ونخبه النخبه داخل هذه المجتمعات الشيوعيه، بينما الشعب يموت جوعاً»!!
عند هذه الحد، نظرت إلى وجه الدبلوماسي السوفياتى، كان جامداً كتمثال من الشمع، فأكمل السفير الأميركى حكايته ضاحكاً بصوت عال: « وذات يوم قررت القطة أن تهرب إلى الغرب فقفزت من فوق جدار برلين، فإذا بقط شوارع جائع يدور بين براميل الزبالة يبحث عن لقمة، فاستغرب القط «الغربى» منها وسألها: «صحتك رائعة و تأكلين جيداً، فلماذا هربت منهم وجئت الينا»؟!
فقالت القطة «الشرقية»: إن فمى ليس للأكل فقط، «فأنا أريد أن..أموء، أريد أن أقول..مياو المحرومة منها»!!
بالطبع ضحك السفير على نكتته والدبلوماسيون القادمون من حلف شمال الأطلسى ومرافقنا وكذلك السعودى والإماراتى، لكننى -والحق يقال- لم تعجبنى كثيراً لأنها كانت تمثل «الغطرسة الأميركية» المكروهة من «كوالالمبور» وحتى..«جبال تورا-بورا» واستمر وجه السوفياتي ..كالشمع!!
سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه:
لقد وعدتم شعبكم القطرى العزيز فى عام 2001 بأن البرلمان والدستور وفصل السلطات وكل مظاهر الدولة الحديثه سيكون فى متناول أيديهم خلال ثمانيه عشر شهراً، أى فى عام 2003، وها نحن الآن فى عام 2015 ولم يروا شيئاً من ذلك على الاطلاق!
قد تتساءل -سموكم- و«ما علاقة فؤاد الهاشم بأمر كهذا يخص قطر وشعب قطر وقيادته فأقول إن تساؤلكم هذا مشروع ومنطقي فهذا الأمر بين شعب قطر وقيادته ، لكن مشكلتكم تلك تناثرت شظاياها عندنا فى الكويت وقبل أن تسألنى كيف أقول لك الآتى:
شعبك يعشق الديمقراطيه والحريات والنقابات والصحافة الحرة وجمعيات المجتمع المدنى، لذلك، نجده يتابع كل نشاط ديمقراطى عندنا فى الكويت، إنهم -أبناء شعبك سمو الأمير الوالد- يحفظون أسماء نواب البرلمان ويتابعون كل ما يطرح فى الندوات وصاروا «فرقاً وشيعا»، فهناك قطرى مع «الضمير» وقطرى مع «الرمز»، وقطرى مع «راعى النحشه»، وقطرى مع «النائب الفلانى أو العلانى» وكلما حاولنا قدر الإمكان أن «نزيحهم عن هذا التدخل فى الشأن المحلي الصرف» نشاهد «أنوفهم غير الصغيرة وهى تحاول أن تدسها من الباب الكويتى وتجعلنى أتذكر أطفال زمان وأنوفهم الصغيرة التى كانت مبهورة بأضواء التلفزيون الجديد!!
سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه..حفظه الله:
شعبكم يرى الديمقراطية عندنا ويسيل لعابه عليها كما كان أطفال العراق الجوعى والحفاة يسيل لعابهم على «عود الايسكريم» فى يد طفل كويتى ثرى، والمشكلة ان المال الذى تغدقونه عليهم -وأنتم تشكرون على ذلك بالطبع- لم يجعلهم يشعرون بالغنى الحقيقى، بل إنهم يشعرون أن ما لديهم من مال لا مجال لصرفه داخل بلدهم، فيخرجون بسياراتهم إلى «الاحساء» خروجاً من حدود إلى حدود لشراء مستلزمات بسيطة عجزت حتى «الرأسمالية القطرية الوطنية» أن توفره لهم بالرغم من كل تلك الشلالات المتساقطه من دولارات الغاز!
سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفه:
مخاوفكم -بعد الانقلاب عام 1995- مشروعة مثلها مثل أى «انقلاب يحتاج إلى يد حديدية وكتم للإنفاس حتى لا يلجأ أعداء الثورة وعملاء الداخل وجواسيس الإمبريالية»..إلى آخر الديباجة، من «إجهاض رغبة الشعب الثائر..وهكذا»!!
لكن مرت الآن حوالى عشرين سنة، واستقر لكم الحال ورضي الشعب بحاله، واستسلم لقدره، فلم لا تعطوا شعبكم «عوداً من الايسكريم» أو تشتروا له «تلفزيوناً»، حتى لا يسيل لعابه على «أيسكريم-الجيران» ولا تحشر أنوفه بين دفتى باب وهو مذهول من لمعان صندوق..التلفزيون؟!!
سموكم تشترون الايسكريم والتلفزيونات لكل الباحثين عن الحرية فى العالم العربى، فلم لا تقدمونه….لشعبكم؟!
أفواه شعبك امتلأت بكل أطايب الطعام والشراب والحلويات، لكنه يريد أن….يموء!!
هل كثير على شعبك الذى يحبك أن تتركه يستخدم فمه لغير الأكل ويقول….«مياو»؟!
مع خالص تقديرى وتحياتى.