عرفت شعوب الأرض منذ الأزل عمليات السلام بين الأمم كوسيلة لترسيخ عمليات التبادل التجاري فيما بينها وهو ما حدث بين الفراعنة والبابليين وبينهم وبين ممالك العالم القديم في آسيا وأوروبا، وقد كانت المنازعات في بدئها عسكرية بحتة ثم تحولت في العصور الوسطى الى منازعات سياسية كان البابا في أوروبا يتدخل شخصيا لحلها وانتهت بعد الحرب الكونية الثانية واستقرار القانونيين وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان إلى أخذ شكل النزاعات القانونية، وإن كان البعض -كحال صدام- كان يدعي المنازعة القانونية حول اتفاقية الجزائر للأخذ بالخيار العسكري ضد إيران والخلاف السياسي مع الكويت للتحول للاعتداء والغزو العسكري.
* * *
وأرى أن «للتوسط» وهو إحدى وسائل حل النزاعات بين الدول متطلبات واستحقاقات عديدة لا ينبغي التحرك دون توافرها منها ضرورة وجود فريقين سياسي وقانوني شديدي الاحتراف والتخصص عند الوسطاء لدراسة:
(1) المطالب المعلنة لكل فريق من الفريقين المتنازعين.
(2) المطالب غير المعلنة (الخفية أو الحقيقية) لكل منهما.
(3) القدرات المتاحة لكل منهما لتحقيق تلك المطالب حيث تكثر في المنطقة المبالغة في المطالب والمبالغة بالقدرات واللجوء للعبة كل شيء أو لا شيء.
(4) قدرة الوسطاء على خلق حل وسط واقعي يمكن قبوله من الأطراف المعنية يحفظ لكل فريق ماء وجهه كما يضمن الديمومة وعدم تجدد النزاع لاحقا.
فريق شديد الاختصاص في القانون الدولي قادر على توفير البدائل في التو واللحظة فور رفض هذا المقترح او ذاك من احد الفريقين او كليهما.
* * *
وقد شهد العصر الحديث مبادرات وعمليات توسط قام بها ساسة وشخصيات اممية نجح القليل منها وفشل اغلبها كاتفاقية ميونيخ 1938 التي وقعها تشمبرلين، ووساطة مبعوث الأمم المتحدة السويدي الكونت فولك برنادونت الذي قتل عام 1948 في فلسطين وأمين عام الأمم المتحدة السويدي داغ همرشولد الذي قتل عام 1961 في الكونغو ووزير خارجية الجزائر محمد بن صديق عام 1982 اثناء محاولته وقف الحرب العراقية ـ الايرانية فقتله صدام كما قتل قبله بالسم رئيسه هواري بومدين كما يشهد على ذلك رئيس ديوانه حامد الجبوري، ومثل ذلك الرحلات المكوكية لكسينغر (نجح في بدء اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل) ودنيس روس والأخضر الابراهيمي (فشلا في مهامهما).
* * *
آخر محطة: (1) أشهر وساطات العصر الجاهلي ما قام به الشيخان هرم بن سنان والحارث بن عوف اللذان نجحا في وقف حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان التي استمرت 40 عاما فخلدهما بشعره زهير بن أبي سلمى وعندما قال ابن هرم للخليفة عمر بن الخطاب لقد اجزل أبي العطاء لابن أبي سلمى فأجابه عمر: «لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم».
(2) أوجب الإسلام على المسلمين التوسط في النزاعات العسكرية التي تقوم بين المؤمنين وجعلها «إجبارية» وإذا رفض طرف الوساطة وجب على الوسيط دخول الحرب ضده حتى يقبلها قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) صدق الله العظيم.