كلما طرح التساؤل عن الأخطار التي تتعرض لها الولايات المتحدة نتيجة سياساتها تجاه فلسطين وإسرائيل والقضايا المتفرعة عنهما تتعمق التساؤلات وتتناقض الأجوبة. فمنذ نهاية الحرب الباردة أصبحت الحروب الأميركية محصورة بمنطقتنا العربية الإسلامية. ولهذا الوضع تفسيرات عدة، لكن أحد هذه التفسيرات مرتبط بطبيعة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية التي تتأثر باستمرار بمقدرة القوى المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة على احتكار سياسة أميركا الشرق أوسطية. فأي ربط بين القضية الفلسطينية وبين حروب الولايات المتحدة في الإقليم الإسلامي – العربي وبين أحداث بسوء أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يثير عند القوى المؤيدة لإسرائيل الخوف الأكبر. إن سياسة أميركية قادرة على المساهمة في تهدئة العالم العربي وتعبيراته الأكثر تطرفاً كـ «القاعدة» والجهاديين الإسلاميين، ستتطلب توافر شروط عدة من أهمها تغير كبير في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل.
لقد كان الإقليم العربي والإسلامي في بدايات القرن العشرين واثقاً من عدالة سياسة الولايات المتحدة بالمقارنة مع سياسات الدول الاستعمارية الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا. هذه الثقة دفعت الفلسطينيين والعرب في عام ١٩١٩ إلى الترحيب بلجنة كينغ – كراين الأميركية التي حققت في الوضع في فلسطين وسورية. في التقرير الذي نشر عام ١٩٢٢ قالت اللجنة: ”لا يقتصر الأمر على الرئيس الأميركي، بل على الشعب الأميركي أن يعي أنه إذا قررت الحكومة الأميركية تأييد إقامة دولة يهودية في فلسطين، فإنها ستلزم الشعب الأميركي استخدام القوة في تلك المنطقة، خصوصاً أنه يتضح أن إقامة دولة يهودية في فلسطين وإدامتها لن يكون ممكناً بلا استخدام القوة“. وأكد التقرير: ”أن أماني السكان المحليين يجب أن تؤخذ في الاعتبار، خصوصاً أن سكان فلسطين وسورية معادون للصهيونية، بل إن الطبيعية المقدسة للأرض لكل من المسيحيين والمسلمين واليهود يجب أن تمنع سيطرة يهودية شاملة عليها“.
وقد دفعت هذه الثقة المبكرة في الولايات المتحدة بكل من أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح والملك عبدالعزيز آل سعود ملك السعودية للإصرار على دور أميركي حاسم في النفط وعقوده والتنقيب عنه وذلك بهدف استبعاد والحد من دور بريطانيا الإقليمي. لهذا، جاءت عقود النفط في الكويت مناصفة بين بريطانيا والولايات المتحدة، بينما في السعودية تم استبعاد بريطانيا وتثبيت الشركات الأميركية في ظل شراكة ستدوم لعقود.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين تغيرت العلاقة العربية – الأميركية، إذ أصبحت أسيرة المشكلة الإسرائيلية التي نشأت عام ١٩٤٨. فأميركا ساهمت في قيام إسرائيل والاعتراف بها عام ١٩٤٨ وبخطة التقسيم التي رفضها العرب في الأمم المتحدة عام ١٩٤٧، لأنها أعطت اليهود ما لا يمتلكونه من أرض وخيرات، كما أن التحالف الأميركي – الإسرائيلي تطور بصورة استراتيجية بعد حرب ١٩٦٧ ليعني التزاماً أميركياً لا زال قائماً حتى اللحظة، بإبقاء إسرائيل أقوى من أي تحالف عسكري محتمل لمجموع الجيوش العربية. وقد ترجم هذا الالتزام إبان حرب ١٩٧٣ على شكل جسر جوي أميركي هو الأكبر في التاريخ، وقد أدى هذا الدعم إلى إنقاذ إسرائيل من الانهيار، وبطبيعة الحال أدى إلى تمسكها بالأراضي المحتلة عام ١٩٦٧. يكفي لو عددنا عدد المرات التي قامت بها الولايات المتحدة باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمصلحة إسرائيل لنعي مدى عمق المشكلة.
وعلى رغم ذلك تخلل العلاقة العربية – الأميركية الكثير من الواقعية في مراحل كثيرة، فقد وقع تقارب هنا وهناك كما حصل في زمن آيزنهاور الذي دان العدوان الثلاثي على مصر في عام ١٩٥٦ وفرض على إسرائيل الانسحاب من سيناء وغزة. وباستثناء حالات إيجابية مع الكثير من الأنظمة ومع الرئيس السادات، إضافة إلى مساهمة الولايات المتحدة في تحرير الكويت عام ١٩٩١ وقيامها أيضاً ببذل جهود لتخفيف الدور الإسرائيلي في سياساتها تجاه الشرق الأوسط، كما حصل مع إيران أخيراً، بقيت علاقات الولايات المتحدة مع العرب والمسلمين تعيش على وقع أزمة مستمرة بفضل مكانة إسرائيل في صنع القرار الأميركي.
لقد عزز من حجم الصعوبات التي تتحكم في العلاقة الأميركية – العربية (والإسلامية) تلك السيطرة الشاملة التي تتمتع بها قوى الضغط اليهودية في الكونغرس الأميركي ومدى تأثيرها في العملية الانتخابية وداخل الحزبين الرئيسين. لهذا، فإن التفسير الذي تقدمه بعض القوى الأميركية عند وصف العرب: ”أنهم يكرهوننا لحريتنا“ لا يقف أمام التمحيص، ففي الحرب الدائرة بين العرب وإسرائيل وقفت الولايات المتحدة في معظم الأوقات مع إسرائيل، وفي هذا ظلم كبير نظراً إلى طبيعة الاحتلال والتهويد والاستيطان والمصادرة والانتهاك.
ويعيش الناخب الأميركي حالة خداع ارتبطت بالإعلام الموجه تجاه قضايا الشرق الأوسط. فالمواطن الأميركي ينتخب من يمثل مصالحه وحاجاته، لكن قوى الضغط المؤيدة لإسرائيل، والتي تتمتع بنفوذ يتجاوز تأثير الناخبين، تدفع الكونغرس لأخذ مواقف عدائية تجاه الكثير من التعبيرات الناقدة لإسرائيل في منطقتنا. وليس هناك مبالغة إن قلنا إن نقد إسرائيل وعدم دعمها يكلف المرشح للكونغرس أو للرئاسة أو لمناصب شتى في الولايات المتحدة إمكانية خسارة الانتخابات برمتها. إن هذا الوضع يجعل النظام الانتخابي الأميركي أقل تمثيلاً للمصالح الحقيقية للناخبين وأكثر تمثيلاً لمصالح النخب وأصحاب النفوذ السياسي والمالي والإعلامي. في هذا التفاف على الديموقراطية الأميركية وتشديد على المأزق الذي تمر به.
إن العلاقة الأميركية – العربية ستواجه كما واجهت في السابق أعاصير جديدة يصعب تحديد مساراتها وتعبيراتها. فحتى اللحظة لا زالت إسرائيل مستمرة في تهويد القدس والتوسع في الضفة الغربية المحتلة كما تسعى لمحاصرة الوجود العربي في إسرائيل داخل حدود عام ١٩٤٨ والإبقاء على حصار غزة. وحتى اللحظة لا زالت السياسة الأميركية تدعم التسلح والتفوق الإسرائيلي، لكن هذا الالتزام الأميركي لا يضع على إسرائيل شرط عدم اضطهاد شعب آخر وعدم الاستمرار في سياسات الاستيطان ومصادرة الأراضي.
وعلى رغم التغيرات التي جاء بها الرئيس الأميركي باراك أوباما من خلال الانسحاب من العراق وأفغانستان، وسياسته الجديدة تجاه إيران، إلا أن أخطر أثر على الولايات المتحدة ليس مرتبطاً بالعراق أو بأفغانستان أو بإيران، بل هو مرتبط بكيفية رؤية المسلمين لطبيعة التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ففي الإسلام السياسي رفض لطبيعة هذا التحالف، وفي الإسلام الجهادي ممثلاً بـ «القاعدة» والمجموعات المسلحة سعي لاستهداف هذه العلاقة، وفي المعنى العربي القومي أو الإسلامي التضامني أو حتى الحقوقي الإنساني نقد لهذا التحالف نتيجة الأثر الذي يتركه على الشعوب والحقوق. وهذا يعني أن قوى عدة في العالم الإسلامي والعربي ستسعى للاشتباك مع الولايات المتحدة كما فعل تنظيم «القاعدة» بوسائل عنيفة في العراق، أو كما قد تفعل جماعات حقوقية تحتج على هذه العلاقة والعبث السياسي الذي تثيره. إن العلاقة الإسرائيلية – الأميركية في الشكل الذي تعبر عنه، تساهم من حيث لا تدري، في تغذية الراديكالية الإسلامية وفي ردود فعل تعود بالضرر على العالم العربي والإسلامي من جهة وعلى الولايات المتحدة من جهة أخرى.
وعندما يتحرك وزير الخارجية الأميركي في مسعى حثيت لإيجاد تسوية، فهو مقبل على فشل جديد للسياسة الأميركية في الإقليم. إن تحقيق تسوية سياسية شكلية تبقي على أسس الاحتلال، وفلسفة السيطرة الإسرائيلية ستضع الفلسطينيين في سجن أكبر وعلاقة انتهاك أشد عمقاً، وهذا بطبيعة الحال لن يغير جوهر الصراع. التسوية التي تطرح اليوم في الساحة الفلسطينية تشبه وضع قطعة من الضماد الكبير على ضحية تعاني من مرض قاتل. القضية الفلسطينية ترتبط بحقوق وأراض ومنازل تمت مصادرتها وقرى تم ردمها وسحقها وشعب تم تهجيره، وهناك مستوطنات تتمدد وأراضٍ تقضم، بينما تهدد القدس بما تبقى من عروبتها. إن القضية الفلسطينية جوهر قضايا التحرر في البلاد العربية. لهذا، فحلّها لن يكون ممكناً ببعض الديبلوماسية، وكأن لسان حال الديبلوماسية الأميركية هذه الأيام يقول: ”هذه فرصتكم الوحيدة إن لم تأخذوها، فسنبرئ ضميرنا ونعود لدعم إسرائيل في كل توجهاتها“.
إن التسوية ستكون ممكنة عندما تتوصل الحركة الصهيونية إلى قناعة بضرورة إيقاف مشروعها القائم على جلب مزيد من اليهود إلى فلسطين ليحلوا مكان الفلسطينيين العرب. لم تصل الحركة الصهيونية حتى اللحظة إلى القبول بمبدأ التخلي عن القدس الشرقية والأراضي المحتلة لمصلحة دولة فلسطينية، ولم تصل حتى الآن لفهم إنساني يؤدي إلى وقف اضطهاد عرب ١٩٤٨ وحصار غزة والاعتراف بخطأ ما قامت به بحق العرب والمسلمين على مدى قرن من الزمان. إسرائيل لا تعرف لغة الإقرار بحقوق للعودة واستعداد للتخلي عن الاستيطان. لهذا، يستمر الصراع. إن تغير طبيعة الدولة الإسرائيلية هو الأساس لتأمين حل صادق وواقعي وإنساني يشمل الإسرائيليين كما يشمل الفلسطينيين. منذ أيام فقط، في 11 كانون الثاني (يناير) أعلنت إسرائيل (وهذا موقف يتم رميه في وجه المبعوث الأميركي وزير الخارجية كيري)، أنها ستبني ١٤٠٠ وحدة سكنية جديدة في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية.
لتنضج شروط التسوية يجب أن تتغير الرؤية الإسرائيلية للمستقبل، كما يجب أن تتعدّل العلاقة الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة. إن استمرار العلاقة في الشكل الراهن سيضع الولايات المتحدة في موقف أقرب لإسرائيل، وهذا سيجعل الولايات المتحدة في مرمى أطراف عربية إسلامية كثيرة، كما أنه سيجعل إسرائيل أقل استعداداً لقبول ضرورات التغير والعدالة، فهي تعرف أنها تستند إلى دعم دولة هي الأكبر والأهم في العالم. لكن هذا الدعم لن يأتي لإسرائيل بالأمان والاستقرار. إن التسوية المنقوصة، لو حصلت، ستضيف إلى نيران الراديكالية المنتشرة في الشرق الأوسط، فهذه مرحلة بين حربين وانتفاضتين وثورتين ومعركتين تحمل من المفاجآت أكثر مما تحمل من التسويات.