«ليه تورط نفسك يا شيخ؟ أجل إذا منت قدها وش لك تضرب على صدرك؟»… تلك العبارة ردّ بها أحد المغردين «الظرفاء» على أحد خطباء الجمعة الذين أصبحوا يدعون، عبر تويترهم، متابعيهم إلى اختيار موضوع «خطبتهم» للجمعة المقبلة! أي أنهم يفتحون المجال للناس لمشاركتهم في اختيار موضوع الخطبة كاستفتاء محدود إن جاز لنا وصفه.
ذلك أمر جيد لا بأس به، ولم لا؟ فلطالما أن هذا الخطيب أو ذاك مهتم بأمور الأمة وقضاياها وشئونها ويتواصل مع «بني الإسلام» للوقوف على قضية مهمة يطرحها في خطبته، فهو ربما يدخل تحت عنوان «البدعة الحسنة»! لكن ليس كل المغردين بالطبع سيتهافتون على الرد باقتراح الدعوة بطول عمر ولاة الأمر وشكر النعم والدعاء على الكفار والبكاء على حال الأمة والتحشيد لنيل البركات سخاءً رخاءً!
هذا صعبٌ للغاية وخصوصاً مع انتشار استخدام «تويتر» في العالم، والذي تشير تقديرات موقعي «سوشال بيكرز» و «انفوغراف» إلى أنه من بين نحو 200 مليون مستخدم لـ «تويتر»، هناك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما يقارب 44 مليون حساب لمغردين حقيقيين ووهميين، مثقفين وجهلة، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، طيبين وخبيثين، جادين وهزليين.
المهم، أن ذلك الخطيب تلقى من العناوين ما يشيب له شعر رأسه ولحيته! فمن طالبه بالحديث عن الظلم والاستبداد، ومن دعاه لأن يكشف خنوع بعض الحكام للغرب وتآمرهم ضد الإسلام، ومن وعده بتقبيل رأسه وقدمه إذا طالب بمحاربة الفساد وفضح رؤوس الفساد والسرقة والنهب من «الهوامير»؛ ومن دعاه للتوقف هو شخصياً عن إثارة الفتن الطائفية! وآخرون طالبوه بالاعتذار عن إساءاتٍ كثيرةٍ وجّهها هو نفسه لعلماء وطلبة علوم دينية، وغيرها من الردود التي فتح المجال لها بنفسه حين دعا الناس لهذا الاستفتاء. وحين وجد نفسه محاصراً طالب الناس بعدم طرح عناوين لموضوعات «تفرّق الأمة»، فردّ عليه ذلك الظريف بالعبارة أعلاه: «ليه تورط نفسك يا شيخ؟ إذا منت قدها وش لك تضرب على صدرك؟».
هكذا، ومع اعتبار «تويتر» واحداً من أهم أدوات التواصل الاجتماعي والإعلامي الإلكتروني في العالم قاطبةً، وفي منطقة الشرق الأوسط والدول الإسلامية، فإن التعامل مع جيل جديد من الشباب يطرحون آراءهم وأفكارهم بكل حرية، في القضايا العامة، لا يمكن أن ينحصر فقط في رغبات الوجاهة والانتشار والشهرة بقدر القيام بالمسئولية الدينية والوطنية، ولاسيما من قبل الخطباء والوعاظ. ويحق لهذه الفئة المتنامية في مجتمعاتنا أن تناقش وتتساءل وتطالب وتدعو أيضاً لأن يقوم خطيب (ضرب على صدره) بكامل مسئوليته في طرح القضايا التي تهمّ الأمة فعلياً، وليس من باب التشدق والتفلسف.
ولاشك في أن المجتمع الإسلامي ابتلي خلال العقدين الماضيين، ولربما مع انتفاض الكثير من المجتمعات العربية في ثورة المطالبة بالحقوق المشروعة منذ أواخر العام 2010… ابتلي بنماذج من الخطاب الديني المتشدد المدعوم في كثير من الأحيان من حكومات وجماعات وأقطاب قوى داخلية وخارجية، وصعد الخطاب الفتنوي الطائفي بشكل كبير بلغ أوجه في الشتم والتخوين والتكفير الواضح لمن يختلف مع «خطيب الفتنة» في منبره السيىء، في حين أصبح الخطاب المعتدل من الصور المتوارية خلف الأفق. وفي ذلك خطرٌ كبيرٌ على الأمة التي يتوجب على كل فرد منها، ومن منطلق مسئوليته الفردية، أن يرفض مثل هذا الاعوجاج الواضح ولا يقبل به.
بالمناسبة، تنبهت مؤسسة الإرشاد الديني في اليمن، على سبيل المثال، وغيرها بالطبع، لمخاطر مثل هذا الخطاب فأصدرت دراسةً حول أزمة الخطاب الديني المتشدد وملامحه، وحدّدت عدة محاور لعنف ذلك الخطاب تجاه: الذات، العقل والإرادة، تجاه المرأة، تجاه الآخر وكذلك العنف الدعوي. وما يهمنا هو العنف الدعوي والعنف تجاه الآخر، فقد جاء في الدراسة أن العنف الدعوي هو استخدام أسلوب الترهيب في مقابل إسقاط أسلوب الترغيب وتفريغ الدين من محتواه المتسامح، فتجد لغة الدعاة قد انطبعت بالطابع التهديدي واللغة المنذرة والصوت العالي، ما كرّس نمط الملقي الآمر المنذر والمتلقي المطيع المنصاع، والداعي المُتَهِم والمدعو المُتَهَم في عملية الاتصال الدعوي، وأُهملت لغة الحوار والإقناع والترغيب والجذب بالطرق التي تحترم ذات ونفسية المتلقين ولا تحتويهم، أو تجعل منهم صورةً للشر أو الخطيئة. وهذا خطأ مشينٌ بعملية الدعوة، وأسوأ ما فيه التنفير والشعور المبطّن للداعية بأنه كامل ومثالي، والمدعوين قاصرون وخاطئون، وهو ما يفقدهم الثقة فيه.
أما في محور العنف تجاه الآخر، فأشارت الدراسة، وهي للشيخ يحيى أحمد النجار، إلى أن الخطاب المتشدد يعتبر الآخر ديانةً كان أو عالَماً غريباً، إما عدواً مطلقاً أو طامعاً مطلقاً، فهو منبوذ ومستبعد من إمكانية التفاعل معه، ومقصي من أي درجة قبول. وهذا أوقع العقل الإسلامي في ازدواجية نفي الآخر نظرياً، والتعاطي مع منجزاته الحضارية والتكنولوجية واقعياً، كما أن التقييمات الدينية العامة للمجتمعات خطأ كبيرٌ، لأن هذه المجتمعات تتكوّن من اتجاهات وتيارات وأفراد وجماعات ليسوا على مبدأ واحد، ولا على موقفٍ مشترك، والخطاب الديني ملزمٌ بالتواصل معهم وإبلاغهم بالدين بأفضل وسيلة.
أما بعد، فأخطر ما في ذلك الخطاب المتشدد، أن يكون مسكوتاً عنه من جانب الحكومات التي تفضله، وأن يصبح الخطاب المعتدل، موضع عداء من الحكومات التي لا تريد أن تسمعه أو تترك الحرية المطلقة لغيرها أن يسمع، وهذا بالتأكيد، معول هدم للسلم الاجتماعي لا علاقة له بالدين الإسلامي.