سامي النصف

عبقرية الشيخ عبدالله السالم

أقامت دار الآثار الإسلامية الكويتية سلسلة ندوات في جامعة الكويت اشرفت عليها الشيخة حصة صباح السالم وافتتح فعالياتها الشيخ ناصر صباح الأحمد وحاضر فيها جمع من الدكاترة والباحثين المختصين للحديث حول عهد الشيخ الإصلاحي والتنويري عبدالله السالم (1950ـ 1965) الذي استطاع بحق ان يخلق ثورة شاملة في المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الكويت والمحيطين الخليجي والعربي، وكانت لنا مداخلة في الندوة تحدثنا فيها عن عبقرية الشيخ عبدالله السالم التي عكستها خمسة مواقف كبرى منها:

(1) عندما ضغط الإنجليز في منتصف الخمسينيات لتزويد الكويت بمياه شط العرب مقابل دعم مالي مباشر وغير مباشر لحكومة نوري السعيد، دعا الشيخ الجليل ما يقارب 70 شخصية كويتية بارزة لمناقشة الموضوع واتخاذ قرار فيه، وقد رفض الحضور ان يصبح مصير الكويت وشعبها بيد نظام دولة اخرى تمنح أو تمنع، وكان رأي المجتمعين هو تماما رأي الشيخ عبدالله السالم الذي أبداه عن طريق ممثله الشخصي الداعي للاجتماع المرحوم الوالد عبداللطيف النصف، فتبناه الحضور واصبح رأيا شعبيا يواجه به ضغط الانجليز ومن خلفهم الثعلب نوري السعيد.

***

(2) وفي عام 1958 ارسل داهية العراق ورئيس وزرائها نوري السعيد عرضا عن طريق الانجليز بترفيع الشيخ عبدالله السالم الى رتبة «ملك الكويت» ومنحها استقلالها على ان تنضم للاتحاد العربي مع ملوك العراق والاردن، وكان عرضا مغريا للغاية يصعب رفضه خاصة بعد تبنيه من قبل بريطانيا العظمى الا ان الشيخ رفضه وذلك لعبقريته وحكمته وتعقله وقراءته الصحيحة للاوضاع السياسية في العراق في ذلك العام 1958 والذي كان قريبا جدا من اوضاع مصر عام 1952 حيث شُكلت في البلدين 5 حكومات متعاقبة في الفترة من شهر يناير الى يوليو ما يعني حالة عدم استقرار سياسي خطيرة تمهد لثورة شاملة وهو ما حدث في البلدين، ولو انضمت الكويت الثرية – بقصر نظر- لتلك الوحدة لما سمح لها الحكم الثوري الجديد في بغداد بقيادة عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف بالخروج منها بعكس السماح للأردن الفقير آنذاك بالخروج.

***

(3) ومع تهديد عبدالكريم قاسم للكويت حال استقلالها في يونيو 1961 ومطالبته بها، قام الشيخ الجليل عبدالله السالم ودون تردد بالدعوة الفورية للقوات البريطانية والسعودية لحماية حدود الكويت ثم ارسل القيادات القومية في الكويت إلى القاهرة للحصول على تأييد الزعيم العربي المؤثر جمال عبدالناصر (كان حاكما لمصر وسورية وقطاع غزة) وبذا استطاع بحكمته وحزمه وبراعته السياسية ان يؤمن استقلال الكويت ويمنع احتلالها.

***

(4) وفي عام 1963 وإبان استمرار مطالبة قاسم بالكويت وقيام اغلب دول الجامعة العربية بسحب قواتها من الكويت، بعضها لخلافات سياسية فيما بينها كحال سحب مصر وسورية لقواتهما عام 1962 بعد انفصام الوحدة بينهما، كما سحب البعض الآخر من العرب قواته لعدم استجابة الشيخ عبدالله السالم لابتزازاته المالية، ولم يبق على الحدود الكويتية ـ العراقية إلا 300 جندي وضابط عربي يمكن ان يكونوا وبسهولة أسرى عند اي هجوم عراقي يطلق سراحهم سريعاً، وكانت الأوضاع شديدة التأزم في الداخل العراقي بعد ان فقد النظام القاسمي تأييد الجميع وكان من المنطق ان يتوجه لاحتلال الكويت لإشغال الداخل بقضايا الخارج، حينذاك وفي قراءة سياسية صحيحة اخرى للوضع العراقي، بدا واضحا للشيخ عبدالله السالم ان الزعيم قاسم ساقط لا محالة وما تمليه الحنكة السياسية والدهاء هو شراء الوقت، لذا بدأت عملية تفاوض كويتية – عراقية شديدة السرية في اليونان ذكرها الوزير العراقي في عهد قاسم، اسماعيل عارف في كتابه «ثورة 14 تموز» ولم يكن مهما للشيخ الجليل فحوى ومحتوى المفاوضات بل المهم وجودها واطالتها منعا لاجتياح عراقي سريع، وهذا تماما ما حدث حيث تم الانقلاب على عبدالكريم قاسم في صيف 1963 وإبان تلك المباحثات، وقيل آنذاك ان الكويت كانت وهي تفاوض عدوها الماكر قاسم الذي يفخر باستخدامه عنصر الخداع والمباغتة كانت تعمل بفاعلية شديدة مع اعدائه لإسقاطه حتى باغتته بأول انقلاب «نهاري»لا ليلي في تاريخ الأوطان العربية، وبذا انتصر دهاء عبدالله السالم على دهاء نوري السعيد وعبدالكريم قاسم مجتمعين.

***

(5) والعبقرية الخامسة لعبدالله السالم كانت باختياره للمسار الديموقراطي واشراك الشعب في الثروة واتخاذ القرار، والغريب ان الديموقراطية آنذاك كانت نهجا غير معمول به وغير مقبول في الأغلبية المطلقة من دول العالم عدا قلة قليلة من الدول الغربية ذات السمعة السيئة في المنطقة، وعدا ذلك فأغلب دول آسيا وأفريقيا والشرق الاوسط وأميركا اللاتينية كانت تؤمن بحكم وتأليه الأفراد من الحكام.. يتبقى ان ما ذكرناه هو غيض من فيض من انجازات الشيخ الجليل عبدالله السالم الذي لم يرحل إلا والكويت في عز نهضتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتعليمية، فرحم الله من كان كوكبا مضيئا في سماء الكويت والخليج والمنطقة العربية.

***

آخر محطة:

(1) العبقريات هي سلسلة كتب خطها الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد تناول من خلالها عبقرية شخصيات اسلامية كبرى ساهمت في جعل الاسلام ينتشر من الجزيرة العربية الى حدود الصين وفرنسا.

(2) سواء كان الأمر يتعلق بالشيخ عبدالله السالم أو الرئيس أوباما أو غيرهما فجودة قرار المسؤول ترتبط تماما بجودة وكفاءة الفريق الذي يعمل معه ولا يختلف اثنان على صحة اختيارالشيخ عبدالله السالم لفريقه.

(3) اشتهر عن الشيخ عبدالله السالم انه عندما كان يرتحل في اجازته للهند أو غيرها مع صحبه الذين هم في الحقيقة جزء من مستشاريه انه لا يستخدم أموال الدولة رغم ثرائها الفاحش، أو أمواله للصرف على مرافقيه، بل يستخدم نظام «الحطّة أو المشاركة المالية» ولما سأله أحد أصدقائه المرافقين عن سبب مشاركة الجميع في الصرف، اجابه الشيخ: لو صرفت الحكومة أو صرفتُ عليكم لما تجرأتم على مخالفتي الرأي أو مصارحتي بأخطائي الشخصية وأخطاء قراراتي العامة.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

سامي النصف

كابتن طيار سامي عبد اللطيف النصف، وزير الاعلام الكويتي الاسبق وكاتب صحفي ورئيس مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية

twitter: @salnesf

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *