محمد الوشيحي

مهرة العين

«والغواني يغرهن الثناءُ»، وهي لا تنتظر ثناء أحد- وإن كان ثناؤهم عليها مدرارا – إذ تثني على نفسها بنفسها: «أتحدى البنات جمالا وذوقا وعطرا وغنجاً، أتحداهن جميعا»! واثقة هي إلى ما بعد حدود الثقة. وهي محقة فلم تغش نفسها. قاتلها الله ما أجملها… في محيطها، هي سيدة الزمان والمكان. يهندم الكلام ملابسه في حضورها، ويعيد تسريح شعره، فـ «لا صوت يعلو في حضور الفاتنة». الحياة تبدأ وتنتهي بضحكتها ودمعتها، هكذا يشعر الحضور. إذا ضحكت تراقص الفراش، وإذا بكت ساد الخشوع وصغرت الدنيا في العيون وتساءلت العقول: «هذه تبكي؟ فمن يضحك إذاً؟!»، أما إذا تغنت طربا وعشقا فسيتعطر الهواء. رقيقة هي وقاسية. هادئة صاخبة. تراقبها الأعين الحيرى أين حلت وارتحلت، وتتبعها القلوب الظمأى أين سارت وانتقلت.
هي من قال عنها محمد بن شرف الدين في موشحته الصنعانية الشهيرة: «فويتنة من خدها وردها، سويحرة هاروت من جندها، في مزحها لاقت وفي جِدها، أفدي بروحي جدها والمزاح»… حولها الكثير من النساء، لكن لا نساء حولها. على أرففها يتكدس رجال كثر، لكنهم بلا نكهة، مجرد زحام يدفعها للبحث والتساؤل بدهشة: أين هم؟ ثم تجيب عن تساؤلها بقهقهة: هو وحده الرجل، هو لا غيره من يستحقني.
أما هو فرجل بنكهة فواحة، لكنه بلا رصيد من الحسنات. حفر الصخر للوصول إليها، واستخدم طرقا تُعجز أجهزة المخابرات للعثور عليها عندما دخلت هي وصديقاتها قاعة الاحتفال، فالتفتت الرقاب كلها وفغرت الأفواه مشدوهة وجحظت الأعين، وتناسى الناس الفنان وأغانيه. استوت في جلستها وضحكت فوضع يده على رأسه وتمتم بكلمات تقتطع من حسناته لتصب في ميزان حسناتها، ولم ينتهِ الحفل إلا بعدما قضى على حسناته بأكملها، واستدان من رصيد المستقبل، و «اصرف ما في الجيب من حسنات يأتيك ما في الغيب من سيئات». كانت تبتسم فيتمتم فيفقد حسنة، ترفع خصلة من شعرها باصبعها فيتمتم فيفقد حسنات، أحسّت به فناظرته فنثر رصيد الحسنات بأكمله، وانكشف حسابه، فاليوم خمر وغدا امر! انتهى الحفل، أو قل المعركة، وخرجت هي برصيد منتفخ من الحسنات، وخرج هو بلا رصيد.
من بلدها، تمازحه أحيانا في الهاتف: «شباب الكويت معروف عنهم التلاعب في القلوب والخداع، هكذا قلن لي، غشاشون أنتم»، فيغضب: «أحد عشر عاما وأنا أقاوم الظمأ بانتظار هطول المطر، وتقولين لي بعد ذلك خداع؟!»، فتضحك وتسترضيه بلهجتها: «فديت الكويت وشبابها»، ثم تضيف بجدية خجلى: «هذه المرة ستمطر الغيمة وستسيل الوديان، وستخضر الفياض، صدقني، ستأتيك غيمتك هذه المرة حيث كنت، وستمطر عليك وحدك لتبل ريقك وتغسل قلبك».
سألني مرة وهو يحدق في النجوم: «لم أعد أحتمل الانتظار، الأحد عشر عاما أنهكتني، فما الحل؟»، قلت: «هي تستحق أحد عشر عمرا لا عاما»… فاستأذنني وأدار شريط التسجيل وراح يغني مع نوال «يا مصبّر الموعود».

 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *