محمد الوشيحي

أوقفوا التداول…

مصابة بنزيف داخلي، ويدها اليسرى على خدها الأيسر، وأصابع يدها اليمنى تلعب على الطاولة، وعيناها تنظران إلى اللاشيء بوجوم… تجلس الكويت منتظرة حكم المحكمة الدستورية.
وما يحدث في مجلس الأمة يُبكي "أبو الهول" وجبال الألب وكل ذي قلبٍ من حجر، وما يفعله نواب هذا المجلس (مجلسهم) يُدمي قلوب حتى كارهي الكويت وأعدائها… والسؤال: وماذا بعد كل هذا السقوط؟ والسؤال الأهم: إلى متى؟
وسؤال "وماذا بعد كل هذا السقوط" يمشي ويسحب خلفه أسئلة صغيرة كالبطة التائهة وخلفها بنياتها؛ وماذا بعد سقوط هيبة الاستجوابات؟ وماذا بعد جمعها في كيس أسود والتخلص منها كما تتخلص الجانية من ابنها اللقيط؟ وماذا بعد سقوط هيبة النائب نفسه؟ وماذا بعد سقوط الثقة بمؤسسات الدولة وسلطاتها؟ وماذا بعد سقوط هيبة المال العام؟ وماذا بعد سقوط القانون على وجهه ودخول التراب في أنفه؟ وماذا بعد كل هذا العبث الذي يتم بأيدي الوزراء؟ وماذا بعد كل هذا الخنوع من بعض النواب؟ وماذا بعد كل هذه الدموع على دولة كانت فأصبحت؟ وماذا بعد سقوط الإعلام وتحوله إلى ربطة على خصر راقصة رخيصة؟ وماذا بعد كل هذا البكاء… كل هذا الألم… كل هذا الأنين؟
أما سؤال "إلى متى" فأطول من ليل الشتاء وأبرد، ويمكنك استبدال "وماذا بعد" بـ "إلى متى" وأنت مرتاح الضمير.
ومن يدّعي أن الولاء للوطن ثابت لا يتغير، وأنه في درجة متساوية عند الجميع، ليس كذاباً فقط بل ملعون في الشرائع كلها، وكنت قد طرحت في برنامجي التلفزيوني على ثلاثة من شبان المعارضة هذا السؤال "هل يتغير معدل الولاء للوطن بين فترة وأخرى بناء على ما تقوم به مؤسسات الدولة؟ وهل هو متساوٍ بين الناس صالحهم وطالحهم؟ وأجابوا إجابات مختلفة. ثم عقد تلفزيون الدولة حلقة عن هذا الموضوع عندما وجد السؤال مستحقاً، وبدأت وسائل إعلام أخرى تطرح هذا السؤال، ثم تحدث "تويتر" عنه، وأزعم أن المنصفين اتفقوا على أن الولاء ينخفض ويرتفع، وأنه مختلف بين الناس، كالإيمان، وأنه في أسوأ حالاته هذه الأيام.
ولو كان للكويت شاشة كشاشة البورصة لرأيت فيها اللون الأحمر فقط، ولرأيت الأسهم تتهاوى، سهم الولاء، سهم الثقة بالدولة ومؤسساتها وسلطاتها وقياداتها، سهم الأمل، سهم الابتكار والإبداع، سهم الطمأنينة العامة، وسهم وسهم وسهم… ولو كان للكويت صالة تشبه صالة البورصة لرأيت الشعب يجلس ويداه فوق رأسه، وعيناه في الأرض، لا يتحدث واحد مع الآخر.
وفي بورصات العالم، إذا تهاوت الأسهم بهذه الصورة يتم وقف التداول وإغلاق البورصة إلى حين الخروج من الكارثة، فماذا ننتظر؟

محمد الوشيحي

منسق «رفس»…

قنبلة وانشطرت… ما نراه لا علاقة له بالتيارات السياسية، كل خمسة أنفار انشطروا وأسسوا حركة سياسية، وهذا لا يهم، المهم أن كل حركة حرصت على أن يكون اسمها من ثلاثة أحرف أبجدية، والويل لمن يزيدها والثبور لمن ينقصها، خذ عندك بدءاً من "حدس" مروراً بـ "نهج" و"حشد" و"معك" و"حدم" وليس انتهاءً بـ"عهد".
هو اتفاق ضمني غير مكتوب على أن تكون أسماء التيارات السياسية مكونة من ثلاثة أحرف، وأسماء الممثلاث الحديثات من أربعة أحرف "كفاح"، "غرور"، "صمود"، ووو…
ورحم الله أيامك يا غاندي، عندما أبلغه مناصروه، ضاحكين، أن جماعة لا يزيد عددها عن بضعة آلاف هندي انشقت عن المقاومة احتجاجاً على سلميتها، وأعلنت بدء المقاومة المسلحة، فطلب من أنصاره عدم الاستهانة بهم ولو كانوا مجرد آلاف، وأعلن عدم اعتراضه على انشقاق أحد، وإنما يكمن اعتراضه على "العنف" فقط.
ورحم الله أيام مراهقتنا، كان الواحد منا إذا أراد إثبات "رجولته"، وإقناع الآخرين أنه تجاوز مرحلة الطفولة واقتحم عالم الرجولة، لا يكلفه الأمر أكثر من تدخين سيجارة، وكانت اجتماعاتنا وقتذاك إما خلف "فرع الغاز" أو خلف "فرع البنك"، وما بين الفرعين كانت توضع خطط الخناقات، وكانت لعنات الجيران وشتائمهم ودعواتهم علينا تطاردنا، فيستجيب الله لها مباشرة، فتنهمر علينا عصيّ آبائنا… أما مراهق هذا الزمن المرعب، فقبل أن يكتمل نمو شاربه، وبعد أن يعود من المدرسة، ويرمي كتبه على سريره، يهرول مع أربعة من أصحابه فيشكلون تياراً سياسياً، ويجتمعون إما في مقر جمعية نفع عام أو في مقر نقابة، وبدلاً من أن تطاردهم اللعنات والشتائم تطاردهم كاميرات الصحف والفضائيات.
وهذه الأيام كثرت اجتماعات المدعو سعود (ابني الملقب "بو عزوز") بأصحابه في الروضة، وقد يشكلون تياراً سياسياً، وقد يشكلون جمعية نفع عام، أيهما أصعب، وسيختارون لتيارهم اسماً له علاقة بالدم والألم، "رفسْ" مثلاً أو "خنقْ" أو "طعنْ" أو ما شابه… وقد يتولى "بو عزوز" منصب المنسق العام، وقد يختار منصب "أمين السر"، الأكيد أنه لن يكون المتحدث الرسمي باسم التيار، فلسانه ليس بكفاءة يده، أبداً… دعواتنا له ولرفاقه المناضلين بالتوفيق.

محمد الوشيحي

أتاتورك.. والبرتقالة الزرقاء (٤ – الأخيرة)

هذه هي المقالة الأخيرة في هذه السلسلة، عقبالكم… وكما يفعل ساحر السيرك عندما يُدخل الحمامة في كمه الأيمن فتخرج الأرنب من كمه الأيسر، أدخلُ في نقاش حول أداء أسرة حاكمة كأسرة بني عثمان، وأنتقد فسادها وطغيانها، فأخرج من النقاش من الكم الأيسر "معادياً للإسلام"، ومن أعتى كفار قريش، وهنا مربط العقرب.
ولو وافقتهم على مبدأ "الدولة الإسلامية" لاختلفت معهم، بل سيختلفون هم بعضهم مع بعض، حول أي نوع من الإسلام يحكم الدولة، وأي فرقة وجماعة… ولك أن تأخذ هذه المعلومة وتعيدها إلي؛ انتشرت الجماعات الإسلامية في مصر في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وكلها رفعت شعار "دولة الخلافة الإسلامية"، واتفقت كلها على تكفير الحاكم والحكومة، ثم انتقلت إلى مرحلة تكفير المجتمع، ثم بدأ كل منها بتكفير الجماعات الإسلامية الأخرى، فجماعتا "الجهاد" و"التوقف والتبين" كانتا تكفران "الجماعة السلفية"، والجماعات الثلاث هذه، ويا للضحك، تكفر "جماعة التكفير"، وبالطبع عاملتهم جماعة التكفير بالمثل وردّت هديتهم بأحسن منها فكفرتهم كلهم "طقة واحدة" وارتاحت، فجاء "الشوقيون" و"الشكريون" فكفروا كل ما سبق، فأصبحوا في فراغ، فقرروا تبادل التكفير بينهم (أظنه من باب تمضية الوقت)، فتم لهم ذلك، قبل أن يكفر أعضاء الجماعة الواحدة زملاءهم في الجماعة، كان مهرجاناً تكفيرياً رائعا، يشبه مهرجان "حرب الطماطم"، الذي يبدأ برمي الآخرين بالطماطم، إلى أن يفوز فريق، فيبدأ أعضاء الفريق بتبادل رمي الطماطم، إلى أن ينتصر واحد فقط. وبدلاً من "الفرقة الناجية" تحول الأمر إلى "الفرد الناجي".
ولن أتحدث عن تكفير السنة للشيعة وتكفير الشيعة للسنة، واستعدادهما "لتبادل الطماطم"، فهذه لا تحتاج إلى جماعات ودوخة رأس، هذه تأتي ومعها تكفيرها من المصنع.
ولا أريد أن أثقل عليك إذا طلبت منك أن تتلفت في كل الكرة الأرضية وتشير بإصبعك المباركة إلى دولة دينية متفوقة، أو حتى ناجحة بدرجة مقبول، في حين سأشير بإصبعي إلى عدة دول علمانية / مدنية ناجحة وبامتياز، وتم تكريمها ووُضِعت صورتها في لوحة الشرف.
وهنا معلومة قد تهمك، وهي أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وكثيراً من مشايخ السعودية يرون أن الدولة العثمانية ترعى الشرك والبدع، لذا كفروها. وجاء في كتاب "تاريخ العربية السعودية" ما يؤكد أن العثمانيين هدموا القرى والمدن، وذكر المؤرخ الجبرتي أنهم قاموا بسبي نساء الوهابيين وغلمانهم ووو… ويرى بعض علماء السنة في نجد أن الدعوة الوهابية ليست خروجاً على الحاكم (الدولة العثمانية) لأنها كافرة. فعن أي دولة إسلامية نتحدث؟
وإذا كنت قد كتبت سابقاً ممتدحاً أداء أتاتورك، فإن مقالة الزميل المبدع فالح بن حجري، التي نشرها في جريدة سبر، دعتني إلى "التوقف والتبين" كما هو اسم تلك الجماعة الإسلامية المصرية التكفيرية، لإعادة حساباتي من جديد وقراءة مصادر عدة عن أدائه، وعن حال الدولة في عهده، على أن "شخص أتاتورك" ليس موضوعي، بل "نهج أتاتورك".
ولا يهمني إن كان أتاتورك من يهود الدونمة، كما ادعى خصومه فصدقهم البسطاء (اسمه مصطفى علي رضا)، ولن أتوقف عند موضوع شربه الخمرة، وتليف كبده، أو حتى تليف أنفه، ولن أغضب إذا كان ينتمي إلى الماسونية أو ينتمي إلى الإخوان المسلمين أو ينتمي إلى "جماعة البرتقالة الزرقاء" التكفيرية (لا تبحث عن اسم الجماعة في قوقل فلا وجود لها)، المهم هو الحرص على توفير أماكن العبادة للمؤمنين، على ألا يفرضوا رؤاهم المختلفة على شؤون البلد، وإقامة العدل، والنهوض بالبلد.
وعصارة رأيي: "الدين هو أقوى درع لحماية الحكم، وأقوى سيف لقتل الخصم" كما يرى حكام الدول الدينية. لذا يجب أن يُحفظ الدين بعيداً عن متناول الأنظمة الحاكمة، وعندذاك نستطيع تقييم هذا الحاكم وذاك وذياك بناء على أدائهم دون أن يخرجنا أحد من الإسلام.

محمد الوشيحي

أتاتورك… والبرتقالة الزرقاء (٣)

الحديث ما زال مستمراً عن أتاتورك والخلافة العثمانية، ومنه إلى مفهوم الدولة الإسلامية، وعن "القشورية" و"القشوريين"، وما أجمل كلمة "الخلافة الإسلامية" وما أحلى وقعها على الأذن، وما أسهل أن ينجر خلفها بسطاء الناس وحسنو النوايا. خذها مني وحاسبني، قل "الإسلام هو الحل" وستجد الآلاف يهتفون خلفك دون أن يتوقف كثيرهم أمام مبادئ "الدولة الإسلامية" أو حتى يقرأ عنها.
وأُصِبت بالحوَل والهزال عندما رأيت بعض شبان المعارضة هنا في الكويت، المطالبين بالحريات، يتباكون على الخلافة العثمانية ويلعنون آباء وأجداد أتاتورك الذي أسقطها وانسحب من أراضي الدول الأخرى ورفض احتلال شبر في بلدان الآخرين، ويتهمونه بالسبع الموبقات! وقبل أن أتحدث عن سهام اتهاماتهم الموجهة إلى سيرة أتاتورك، غير المنزه عن الخطأ، سأذكرهم بأن أتاتورك كان يرفع شعارات بعضها يشابه شعاراتهم، كـ"الحرية" و"لسنا عبيداً لبني عثمان" و"لماذا تبتلع الأسرة العثمانية خيرات البلد بلا حسيب ولا رقيب" و"يجب الحفاظ على أملاك الدولة من جشع أسرة بني عثمان وجلساء السلطان من التجار وزعماء الأسر الثرية الذين ابتلعوا كل شيء وتركوا الفقراء بلا أدنى متطلبات الحياة" وغير ذلك.
ويؤسفني أن أقول إن أصغر طفل من أسرة بني عثمان كان يرافقه موكب أكبر من مواكب حكام العرب في عصرنا الحالي كلهم، ويحزنني القول إن القرى التركية في العهد العثماني، حتى في أوج الخلافة، كانت أحقر من بيوت النمل وأكثر بؤساً من جحور الضبان، في حين يتمدد تنابلة السلطان والأسرة على الأرائك في القصور السلطانية، وكروشهم تتدلدل أمامهم، يتبادلون القهقهات ويتحدثون عن النساء، أيهن أجمل، العربية أم الفارسية أم التركية أم القوقازية أم الأوروبية أم أم أم، ويتباهون بأنواع الخيل، ويتبادلون أفخر أنواع العطورات… ومن يغضب فهو كاره للإسلام، يريد سقوط راية الإسلام، وهو بالتأكيد مندس من كفار أوروبا، وهو لا شك عميل أرسلته بريطانيا أو ألمانيا، أو كلتاهما معاً.
كانت الشعوب تحت راية الخلافة العثمانية عبارة عن عبيد بمستويات ومسميات مختلفة، وكان أحد لا يحلم مجرد حلم أن يتبوأ منصباً في الدولة ما لم يكن متذللاً لأحد من أبناء الأسرة العثمانية، وكانت الشعوب العربية تحت الخلافة العثمانية (أتحدث عن فترات أوجها ومجدها لا فترات وهنها وتفككها) تسبح في محيطات الجهل والفقر والجوع والفرقة والبؤس.
ويحكي لنا آباؤنا عن آبائهم بعض حكايات الجهل المضحك المبكي في أساسيات الإسلام، كـ"المحلل" في الزواج، إذ يطلّق الواحد منهم زوجته ثلاثاً فيمنعه الشرع عنها، فيلجأ إلى أحد رعاة الغنم أو الخدم، ويُدخله في الخيمة على طليقته، بعد أن يحذره من لمسها أو مجرد الاقتراب منها، إلى أن تشرق الشمس فيُخرجه من الخيمة، ويعود إليها، وأرجوك لا تسألني كي لا أسألك عن فترة العدة، فقد سقطت سهواً وجهلاً.
وبالتأكيد كل من يرفض تصرفات أفراد الأسرة العثمانية أو يحتج على فساد أصدقائهم وحاشيتهم فقد خرج من الإسلام وجزاؤه الخازوق المبين… ويأتي بعد ذلك القشوريون ليتباكوا على الدولة العثمانية الفاسدة لارتدائها قميص الإسلام.
وما زال الحديث مستمراً، وسأتحدث في المقبل من المقالات عن علمانية الدولة الأتاتوركية والفروقات بين الدولتين، العثمانية والأتاتوركية. مع التذكير بأن "العلمانية" تعني فصل الدين، أي دين، عن الدولة وليس فصل الإسلام عن الدولة، وأرجو أن يرحمنا من يدّعي أن العلمانية تم اختراعها لإسقاط الإسلام، فقد نشأت لمحاربة الكنيسة لا المسجد.

محمد الوشيحي

أتاتورك والبرتقالة الزرقاء (2)

"قشوريون" نحن، هذا ما كنت أعرفه سابقاً، لكن الجديد أننا "مازوخيون"، نعشق من عذبنا واحتل بلادنا واستعبدنا وامتهن كراماتنا وقادنا من آذاننا إلى التخلف المبين، ونكره من رفض احتلال بلداننا، وتركنا وشأننا. أتحدث هنا عن الدولة العثمانية والجمهورية التركية "الأتاتوركية".
قشوريون نحن لأننا على استعداد لتمجيد من يدعي رفع شعار الإسلام، حتى وإن كان حكمه يخالف مبادئ الإسلام، وحتى وإن كان "الخازوق" أداته في الإقناع والنقاش، كالخلافة العثمانية، التي بلغ التخلف والجهل في دولنا أثناء وجودها مرحلة "الجاهلية الثانية"… وكان السلاطين العثمانيون يتوارثون الشعوب والبلدان بخيراتها، وترتبط مصائر الناس وأقدارهم بمصير حاكم لم يختاروه ولن يشاركوه القرار، وهنا كانت شعلة الانقلاب الأتاتوركي وسببها "لسنا عبيداً".
عن نفسي، لن أزوج أتاتورك ابنتي، لأسباب أهمها أنه توفي، لذا لن أبحث في ملفات حياته الشخصية ولن أقلّب أوراق سهراته وحبه للباليه والفنون المسرحية والنحت والرسم والغناء ووو، بل سأمد منظاري المكبر إلى حيث طريقته في قيادة بلاده، وحروبه دفاعاً عنها، وأركز على التطور والتخلف والعدل والظلم، وهل لمؤسسات الدولة وقوانينها هيبة تُحترم أم تُنهتك، وما شابه.
على أن أكثر تهمة تعرض لها أتاتورك من قبل كارهيه هي "إسقاط الخلافة العثمانية" التي هي حصن المسلمين، واستبدالها بجمهورية علمانية، وكأن الإسلام كان مطبقاً في عهود سلاطين بني عثمان، الذي يحمل كل منهم لقب "ظل الله في الأرض" ويعاملون كأنصاف آلهة لا تجوز مناقشتهم، دع عنك محاسبتهم.
وحكاية "الدولة الإسلامية" مثيرة للشفقة وللكحة، خصوصاً عندما أتذكر ما فعله "أبو العباس السفاح" بقبور الخلفاء الأمويين، التي نبشها وأحرق جثامينها، وكل ذلك طبعاً دفاعاً عن الدين، وتعزيزاً للدين، كما ادعى… وقبل ذلك نشأت الدولة الأموية بالحرب على أحد أهم الصحابة، وهو علي بن أبي طالب، وأريقت دماء بعض الصحابة في عهد الدولة الأموية، الإسلامية جداً، وتوارث الحكم بعض الفسقة الماجنين…
وبالطبع الأمر ينسحب على كل "دولة دينية" لا إسلامية فحسب، وأرجو ألا تقول لي إن اليابان ترفع شعار الدولة الدينية ولهذا وصلت إلى ما وصلت إليه، وألا تقنعني أن قيادات فنلندا وهولندا واستراليا وبقية دول الصدارة العالمية يتبعون الأجندات الدينية في قيادة بلدانهم، وسأعتب عليك إن قارنت العدل في أيٍّ من الدول هذه بدولة ترفع شعار الدين، وسأبكي حزناً عليك إن قلت لي إن شعب النمسا يتسابق لتقبيل أيادي أبناء قيادييهم وأكتافهم، كما يحدث في بعض الدول التي ترفع شعار الإسلام، وسأبتاع رشاشاً سريع الطلقات، وسأكمن لك في الطريق، إن ذكرت لي أن الإسلام يسمح بذلك، ويسمح بأن يتولى شؤونك أشقاء الحاكم وأبناؤه وأقرباؤه، ويحق لهم تكوين الثروات الهائلة، وأنت ترزح تحت القهر الصامت، وأن يتوارثوك كما يتوارثون أثاث قصورهم، فلا فرق بينك وبين "البطانية"… ويؤسفني أن أقول لهؤلاء القشوريين إن العدل واحترام الشعوب اختفى بعد عهد "الخلفاء الراشدين" وعهد عمر بن عبدالعزيز، وقيل إنه (العدل) مات وقيل بل عثرت عليه قافلة كانت في طريقها من اليمن إلى اليابان.
وأرجوك اقترب لأهمس في أذنك: "الإسرائيليون حاكموا رئيسهم لحصوله على تذكرتين مجانيتين (لاحظ التهمة)". وسأقترب منك لتهمس في أذني عن أي رواية تتحدث عن محاسبة سلطان عثماني قتل آلافاً (لم أقل حصل على تذكرتين) من المسلمين الرافضين لاحتلاله بلادهم.
وأظنك مثلي واثق بأن الرؤساء الأوروبيين لن يمنحوك أراضي الدولة كهبة بعد أن تنظم فيهم قصيدة مديح، حتى لو أرادوا ذلك، للأسف الشديد، لكن مثلك يعذر ويقدر الظروف، فهم لا يملكون ذلك ولا يستطيعون، كما يملك ويستطيع سلاطين بني عثمان وأبناؤهم وبعض الحكام المسلمين الرافعين لشعار "الدولة الإسلامية".
وللحديث بقية تجر خلفها بقايا، للرد على القشوريين…

محمد الوشيحي

أتاتورك… والبرتقالة الزرقاء (١)

يبدو أن العسكري الذي يسكن في داخلي، رغم استقالتي من الجيش التي مضى عليها تسع سنوات، ما يزال حياً، بل وفي قمة لياقته البدنية، ويتمرن في نادٍ صحي، ويهرول كل صباح… بحسب تعليقات بعض المغردين في "تويتر" رداً على ما كتبته هناك عن أتاتورك.
وسقى الله تلك الليلة في مقهى بلبنان، عندما كنت ومسلم البراك نتعارك بالألسن على مرأى ومسمع من أصدقاء يؤمنون بعدم الانحياز، ولم يسعفنا الوقت لاستخدام الأيدي لارتباط مسلّم بدعوة على العشاء، وكان سبب المعركة نجاح انقلاب عساكر موريتانيا على معاوية ولد الطايع بعد الفساد الذي عمّ موريتانيا وكساها من الجلدة إلى الجلدة.
وكان مسلم يهاتف محمد الصقر (ناشر هذه الجريدة ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان آنذاك) ليحضه ويحثه على إصدار بيان يرفض الانقلاب، وكنت أنا أسعى إلى ثنيه عن ذلك، بحجة أن "عساكر موريتانيا قاموا بانقلابهم لا حباً في المناصب، بل لإيقاف الفساد والحفاظ على بقايا الدولة، والدليل أنهم حددوا فترة معينة لإجراء انتخابات جديدة قبل انسحابهم من السلطة". وأضفت: "يجب أن يكون بيان برلمان الكويت محايداً بحيث لا يؤيد الانقلاب ولا يرفضه ولا يتطرق إليه أصلاً، بل يدعو إلى سرعة إعادة الحياة الديمقراطية بطريقة أفضل مما كانت عليه، فقط"، وكان تعليق مسلم صارخاً: "سيموت محمد الوشيحي قبل أن يموت العسكري الذي في داخله"، وأضاف "عنصريتك العسكرية فاضحة وسافرة"، فانطلقت مني صرخة تجب صراخه كله: "من قال ذلك؟ وبعدين تعال… الرئيس الموريتاني المخلوع معاوية ولد الطايع هو الآخر رجل عسكري قاد انقلاباً ضد الرئيس الأسبق، وهو حارسه الشخصي، واليوم ينجح قائد الانقلاب العقيد علي ولد فال في الانقلاب على معاوية وهو حارسه الشخصي، إذاً القصة لا علاقة لها بالعسكرية ولا بالمدنية، بل بالفساد وحقوق البسطاء وهيكل الدولة ووو"، وكان رده: "مبدأ الانقلاب العسكري على الأنظمة الديمقراطية يجب أن ترفضه الشعوب وبرلماناتها، بعيداً عن التفاصيل يا أبا سلمان.
المبدأ ذاته مرفوض، والصناديق وحدها هي الطريق الوحيد المؤدي لنهضة الشعوب".
كان مسلم يتحدث بحماسة، وكانت عيني على رقبته، على تفاحة آدم تحديداً، وكنت قد قررت بيني وبين نفسي أن أنتزعها منه ليعيش بلا تفاحة طوال ما تبقى من حياته، لكن الله نجاه، على أنه لم يغادر مقهانا من دون خسائر، فقد كنت متحمساً في الحديث، وأردت أن أضع رجلاً على رجل، فضربت الطاولة، فسقطت أكواب الشاي والعصير في حضنه (وذلك من فضل ربي) فاتسخت ملابسه، واضطر إلى الذهاب إلى العشاء بملابس متسخة، وهذه هي عاقبة كل مَن يعادي العسكر.
ومسلم قبل غيره يعرف أن هذه التهمة (العنصرية العسكرية) يمكن إزالتها بطريقة أسهل من إزالة قشرة الموزة، والدليل كرهي لحافظ الأسد والنميري وعبدالناصر وعلي عبدالله صالح والقذافي وغيرهم من الحكام العساكر، رغم أنني تلقيت تعليمي العسكري في الكلية العسكرية التي تلقى فيها حافظ الأسد وعبدالناصر (والقذافي إن لم أكن مخطئاً) تعليمهم، ولم أكن أفاخر بذلك كما كان يفعل بعض الطلبة، بل كنت أراهم طغاةً دكتاتوريين يجلبون العار لا المفخرة.
أكتب هذا توطئة للحديث عن "العسكري" أتاتورك – الذي لا أنزهه عن الخطأ – في مقالات مقبلة، وهو "يهودي" زرعته بريطانيا ليحارب الإسلام ويعادي العرب، كما كانت تظن جدتي وضحة، رحمها الله، وكما يظن مثلها كثير من الشبان الذين تلقوا المعلومة وحفظوها واحتفظوا بها مغلفة دون أن يفتحوا غلافها.
نلتقي وقتذاك…

محمد الوشيحي

دلدلة اللسان لإغاظة إيران

يقيني الثابت على أربع أرجل أن إيران لم تعد تصدّر الزعفران فقط، كما كانت أيام الشاه، بل أضافت إلى الزعفران مواد غذائية أخرى، كالخلايا التجسسية والأفكار الطائفية وما شابه من مستلزمات البقالة.
ويقيني الأكثر ثباتاً أن الإيراني بطبيعته أكثر إتقاناً للعمل من العربي (كل من على هذه الأرض أكثر إتقاناً للعمل من العربي، لا الإيراني وحده)، والأهم أن الإيراني روحاني بطبيعته، أي يمكن دفعه بسهولة إلى التهلكة لأسباب عقدية وطائفية، وعندما أقول التهلكة فأنا أقصد الموت الحقيقي، الذي لا تشوبه شائبة ولا تعيبه عائبة.
وأدعو دائماً إلى أن نضع أصبعنا على زناد المسدس إذا ما مرت إيران بالقرب منا، وفي حالة النوم يجب أن نكلف أحدنا بالبقاء متيقظاً فوق السطح، وأن نضع مسدساتنا في متناول أيدينا، وتحت مخداتنا إن نمنا… وفي رمضان أدعو إلى عدم تناول أي طبق يأتينا من إيران، حتى لو أبكانا زكاء رائحته، بما في ذلك "صحن التشريب" الذي نظمتُ فيه إلى الآن نحو خمس عشرة معلقة.
كل ذلك أؤمن به وأعتقده وأدعو إليه ويؤمن به آخرون كثر غيري ويعتقدونه، لكن هذا لا يعني أن نتعامل نحن العربان مع إيران كما نتعامل الآن بنظام دلدلة اللسان لإغاظتها، فيذهب رئيس أهم دولة من دولنا، فيترحم على أبي بكر وعمر وعثمان، بالإضافة إلى علي بالطبع، رضي الله عنهم جميعاً، ويكتفي بذلك ونكتفي معه، وشكر الله سعي الساعين! ولا يعني ذلك أيضاً أن نضرب رئيس إيران أحمدي نجادي وهو يمشي في حي "الحسين" في القاهرة بالحذاء، ثم نفسر الحادثة باعتبارها انتقاماً إلهياً لدماء شهداء الثورة السورية! هذا يدخل من ضمن باب "دلدلة اللسان"، في كتاب التعامل السياسي.
إغاظة إيران، أو تحديداً النظام الحاكم في إيران، تتطلب أموراً ليس من بينها دلدلة اللسان، ولا تحريك القبضة اليمنى على باطن الكف اليسرى. إغاظة النظام الحاكم في إيران يجب أن تسبقها وحدة خليجية أرى أن تناول صحن التشريب الإيراني أهون منها وأقرب. ولا أظن أن العربان يمكن أن يأمنوا جانب إيران قبل أن يأمنوا جانب حكامهم وقياداتهم.
وقبل أن نحارب المد الصفوي أو المد الفارسي أو حتى المد بالطاء المفتوحة، سمه ما شئت، وقبله المد الصهيوني، والمد الهندوراسي، وأي مد يخطر على بالك، أظن أن علينا قبل ذلك محاربة المد "الفسَدي" الذي ينتشر بيننا بفعل قياداتنا، وأن نسعى إلى قلب المعادلة، فيراعي حكامنا خواطرنا ويصطفون في طابور لإلقاء قصائد المديح فينا، وتهابنا حكوماتنا لا العكس، ويتلمس الوزير رقبته قبل أن يضع توقيعه على أي قرار، ووو، كما في الدول المحترمة، أما قبل ذلك فلا تحدثني عن أي مد، بما فيها مد البحر، وتعال معي نتناول الكستناء المشوية في هذا الجو البارد على أنغام موال "إذا أشوفك" للفنان المبدع ماجد المهندس.  

محمد الوشيحي

المعارضة وعطورات قرشي

الوضع السياسي الآن تجاوز مرحلة كسر العظم، بعد أن تجاوز قبل ذلك مرحلة عض الأصابع، ووصل إلى المرحلة الأخطر، مرحلة حز الرقبة وتقطيع الأوصال… ونظرة واحدة على عدد القضايا المرفوعة وأسماء المتهمين تكفي وتفيض.
وتغضب "المندهشة" كما أسمت نفسها في تويتر، الزميلة عواطف العلوي في مقالة لها، وتغلف غضبها بالورود، وتضع إلى جانب الورود كرتاً وردياً تكتب عليه "عتاب محب" وترسل البوكيه بما فيه إلى المعارضة، وتحديداً إلى مسلم البراك وجمعان الحربش، على إثر تصريحاتهما بخصوص النقابات وجمعيات النفع العام، وإعلانهما الوقوف "مع" من يرفض هذا الوضع، و"ضد" من يسكت ويطنش ويردد "لابوهم لابو قطّاش" كما في أمثالنا، أو "خلّي هالزير بهالبير" كما في المثل اللبناني.
ويؤسفني أن أقول للزميلة المندهشة، التي بدت مكتئبة، إنني ومجموعة من الأصدقاء، وما أكثرهم، نستخدم هذه الطريقة في تعاملنا مع نواب مجلس الأمة: "إذا سكتّ يا فلان عن هذا الفساد فسنقف ضدك في الانتخابات المقبلة، وإن حاربت الفساد فسندعمك"، وكذلك يفعل الأميركان مع مرشحي الرئاسة والبرلمان وبقية قيادييهم، وكذا يفعل اليابانيون، والبريطانيون، والفرنسيون، والعجمان، والهنود الحمر، والأكراد، وآكلو الجبنة البيضاء، وأشقاؤهم آكلو الجبنة الصفراء، وغيرهم من سكان هذا الكوكب المعطاء… كل من على هذه الأرض يستخدم هذا الأسلوب "سندعمك إن فعلت كذا ونحاربك إن لم تفعل"، ولا أدري ما هو الغريب في الأمر، أو المدهش في الأمر أيتها المندهشة الرائعة… صدقيني لن نرحب بمن يسكت عن الفساد ونقدم له التمر والدلة الشاذلية، بل سنرجمه انتقاداً بسبع جمرات كبار.
وسأفتح كتب التاريخ على صفحات الفيلسوف الفرنسي العظيم "سارتر"، الذي قاد حملة المطالبة بمنح الجزائر استقلالها، ودفع ثمن ذلك، أو بالأحرى أثمان ذلك، وكان يهاجم الأدباء والفلاسفة الفرنسيين الذين لم يتخذوا موقفاً مماثلاً، ويتهمهم بأنهم أقرب إلى الشياطين منهم إلى البشر، وأنهم غير أسوياء، وإلا فكيف يسكتون عن استعباد الشعوب الضعيفة، ويرى بأن الفنان الذي لا يرفض احتلال فرنسا للجزائر أحقر من أن يكون إنساناً… وغير ذلك من مصطلحات أطلقها أثناء حملته تلك، مستنداً إلى شعبيته الجارفة في الانتصار للحق، ولن أغوص في تفاصيل حرق منزله ومكتبته فليست هذه قضيتنا.
والأمر لا يقتصر فقط على السياسيين، أقصد التهديد بالمحاسبة، بل ينسحب على الكثير غيرهم، ومنهم تهديد الناس بمقاطعة شركة فلان إن هو أفسد أو أساء، وتأييدهم ودعمهم لشركة فلان لنصرته في موضوع معين، وهكذا.
وتعلمين أيتها الزميلة يقيناً، وأقسم إنك تقسمين على أن البراك والحربش لا يملكان فصل موظف من عمله كما تملك الحكومة وتفعل، لكن يمكنهما إسقاط، أو السعي إلى إسقاط عضو هذه النقابة أو رئيس تلك الجمعية، عبر صناديق الانتخابات وجموع مؤيديهما، فأين الخلل؟
على أنني وغيري نحتمل كل كلمة انتقاد للحراك، بل وندعو إلى ذلك، وياه ياه ياه لو استمعتِ يا عواطف إلى نقاشاتنا و"خناقاتنا" واختلافاتنا مع بعضنا البعض، قبل أن نلتقط صورة جماعية باسمة تنشرها الصحافة والفضائيات، وهذا ما كنت أتمناه منكِ. أقصد "النقد داخل أسوار المنزل، بعيداً عن مرأى الجيران المتربصين ومسمعهم". أقول "أتمنى" ولم أقل "لا يحق لك".
والبراك والحربش يقدرهما الناس ويصدقونهما، ليس لعذوبة صوتيهما في الحفلات، ولا لملابسهما الفاخرة، ولا لجسديهما الرياضيين، ولا ولا ولا، بل جل التقدير كان لتكرار سقوط "غترتيهما" في الساحات والميادين، وتحملهما وغيرهما تعسف السلطة، وثباتهما أمام وحشيتها وبطشها. وأظن أنهما يدركان قبل خروجهما المتكرر للساحات والميادين أنهما ليسا في جولة في معارض العطورات بين جناحي "قرشي" و"سيد جنيد"، بل هما متيقنان بأن "العطورات المسيلة للدموع" والرصاص المطاطي في انتظارهما… لذا تحتاج المعارضة إلى "رماة نبل" لحماية ظهرها وتأمين الجبل، ورماة النبل هم أعضاء الجمعيات والنقابات.
وأجزم أن تكاتف الناس أزكى رائحة من العطورات الشرقية والغربية، ومن بوكيه الورود الذي غلّف عتابك المحب للمعارضة.

محمد الوشيحي

حفلة مشاري العصيمي

عندما يغني الأبطال، هكذا كان عنوان الفصل، أو عنوان شبيه به، في أحد الكتب التي تحدثت عن المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، ويتحدث الكاتب فيه عن بطولات شبان فرنسا، ويركز على أحدهم، كان عذب الصوت، صبوراً، شجاعاً، عاشقاً لفرنسا ولكرامة شعبها، إلى أن سقط وتناثرت أشلاؤه على ترابها.
تستغرق في قراءة أحداث الكتاب ولا تشعر بنفسك إلا وأنت تمسح دموعك التي تسللت فجأة من مخازنها وخرجت إلى العلن.
وأجزم لو أن الرواية لاقت انتشاراً وقتذاك لانضم إلى مجموعة الشاب الفرنسي البطل كل الأحرار المنتشرين في الأرض… وبحسب الكاتب، استطاع الفرنسيون إقناع الشاب باحتراف الغناء بعد تحرير فرنسا، وحصلوا على وعد منه بذلك، لكن قذيفة الطائرة الألمانية لم توافق.
ويوم أمس استمعنا واستمتعنا بتسجيل مسرب، انتشر بين الناس، لجزء من مرافعة "الفنان" مشاري العصيمي أمام المحكمة الدستورية، وكنا مجموعة ننتظر غداءنا، وبعد كل جملة يقولها، أو قذيفة يطلقها على الحكومة، كان تصفيقنا يعلو ويشتد، وكانت أكثر الكلمات ترديداً بيننا "الله الله الله عليك".
كان فناناً أبو طارق تتمايل الرؤوس طرباً لحديثه، وكان قناصاً يكفيه شعرة من رأس الفكرة المختبئة خلف الحائط ليرديها قتيلة في اللحظة… وهكذا هي الحروب والمعارك، السياسية منها والقتالية، تحتاج إلى عازف الناي كما تحتاج إلى المقاتل، وتحتاج إلى الممرض والممرضة كحاجتها إلى الطيار ورامي المدفعية، ولا تقل أهمية كأس الشاي في الحروب عن أهمية طلقة الرشاش، كما تعلمنا في الحياة العسكرية… أقول هذا رداً على كلام بعض الأصدقاء الذين عابوا على أبي طارق عدم مشاركته "الميدانية" في الحراك السياسي، رغم تأييدي لكلامهم.
وسألتقط هذا الخيط لأقولها بألسن شبان الحراك السياسي وأردد ما قالوه ويقولونه: "نحن لن نتراجع قيد أنملة ولا أصغر من ذلك، حتى وإن سعى البعض إلى شق صفوفنا من الداخل، أو لو تخلى عنا رموز العمل السياسي في السنين الماضية، أو لو اصطفت الرياح والأمطار إلى جانب السلطة… ولا يوجعنا إلا تخاذل بعض من يوافقنا الرأي ويؤيدنا".
هذا هو كلام الشبان الأحرار بعد أن اقتطعت منه جملة "تخاذل المؤيدين لنا عن نصرتنا أخطر علينا من تحامل السلطة وتعسفها".
وأقول: "ليس أجمل من أداء الفنان مشاري العصيمي إلا أداء شبان الحراك الأبطال، الذين لم يتسابقوا على المايكروفونات ولا على الأضواء، ولم يكلفوا صغار مؤيديهم بشتم فلان وعلان"، وأقسم قسماً لا أغلظ منه ولا أشرس إن همة هؤلاء الشبان تحرج الفولاذ وتقطع الألماس. والأيام بيننا.

محمد الوشيحي

active mode

القانون في الكويت يفهم ويأكل ويشرب، ويميز بين العدو والصديق، وهو ابن ستين في سبعين، وتذكرت درساً، كنا تلقيناه أثناء الحياة العسكرية، عن الألغام، وتذكرت حديث المدرب عن نوعية من الألغام الفرنسية التي لا ينقصها إلا الزواج والتكاثر ورعاية أبنائها وتدريسها في مدارس خاصة.
كانت ألغاماً "بعقليات" أقرب إلى البشر، كما فهمنا من الشرح، فقد كانت تميز بين العدو والصديق، وتعرف سيارات العدو وعساكره وسيارات الصديق وعساكره. وكانت فكرة الألغام الذكية قائمة على شريحة كمبيوتر تُحفظ فيها تفاصيل كل الآلات والآليات والعساكر الصديقة، وتتم بعد ذلك برمجة الألغام وحقنها بهذه المعلومات والتفاصيل، وتدور المعركة، وتمر آلية تابعة للعدو فوق اللغم فلا يتعرف عليها اللغم (كل ما لا يتعرف عليه يعتبره عدواً)، فيتحرك من "وضعية النوم" sleep mode إلى "وضعية العمل" active mode، في جزء من الثانية، وينفجر، "بعد أن يشخر لسائق سيارة العدو: فاكرني نايم يا روح أمك" على ذمة اللواء عبدالمعين.
وفي حال مرور صديق، يعود اللغم إلى وضعية النوم: "بالسلامة يا باشا". كان اللغم فرنسياً، هذا صحيح، لكن أمه الفاضلة من "إمبابة"، فالفرنسيون أو من تربى على يد فرنسية لا يجيد "الشخر" أبداً.
وإذا كانت فرنسا صنعت ألغاماً بهذا الذكاء، فقد صنعت السلطة عندنا قانوناً "يشمّخ" بأظافره جلود المعارضة، ويعض بأسنانه أنوفهم، ويشد شعرهم، بعد أن يتحول إلى "وضعية العمل"، فإذا مر صديق السلطة إلى جانبه عاد إلى "وضعية النوم" وأشعل سيجارته ومد رجليه على الطاولة وأطفأ الأضواء وأسدل الستائر، و"بالسلامة يا باشا".
ويدخل القانون قريتنا، فنسرح شعره ونعطّره ونجلسه في صدر مجلسنا، ويدخل قرية السلطة فتشتري له طوقاً تضعه على رقبته، وترمي له عظماً، وتشممه رائحة مخداتنا فينطلق علينا غاضباً وينهش لحمنا.