ما أكثر ما شاهدت في الشاشتين الكبيرة أو الصغيرة، مريم فخر الدين مستلقية على الفراش، ترتدي قميص نوم أبيض، أو هكذا كنت أتخيله، فلم تكن هناك سينما بالألوان- تسيل دموعها وهي تسمع من الراديو الملاصق للسرير أغنية عتاب أو أسى حزينة، أو كلمات طرب ودعوة إلى الصفح من الحبيب.
والأرجح، وفي العادة، يكون هذا الحبيب فريد الأطرش، دموع مريم حزينة، حانقة، على رحيل العاشق الذي غدر بها – كما تتصور، أو أجبر على البعد عنها من دون علم منها، بينما الحقيقة التي حبكها المخرج، تقول إن البطل العاشق قد ضحى من أجلها، تضحية ليس لها معنى في قواميس العشق، إلا أنها تحمل كل معاني السمو العذرية في خيال الحرمان العربي، كانت تلك فترة الرومانسيات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي لحظات الزمن الجميل في عمر القومية العربية الناهضة والكبرياء، تضج بخطب عبدالناصر المثيرة بين كل فترة وأخرى، تستنهض الحماسة والفخر في وجداننا، في زمن لم تكن الحريات السياسية ناضجة في عقولنا الصغيرة، لم نكن نعرفها.
كان يكفينا في ذلك الزمن القليل من الرضا بحماسة قوميتنا وبحرياتنا الاجتماعية النسبية، ونكتفي ونسعد بمسلسل ألف ليلة وليلة من إذاعة صوت العرب، أو القاهرة – لست متأكداً- كانت حكاية من شهرزاد تبدأ هكذا "بلغني أيها الملك السعيد… "، تسعدنا بمثل ما أسعدت الطاغية شهريار، حين انتشى بخمر حكايات الجن والعفاريت والجنس.
لم يعد أحد يعرف اليوم حكايات شهرزاد، وإن ظلت أوهام العفاريت وأحلام الجن معششة ومستبطنة في اللاوعي العربي، ويجاورها صامداً قوياً "شهريارات" زمننا، لا تهزهم رياح الربيع ولا الخريف ولا الشتاء، ظلوا صامدين جبارين أمام عواصف التغيير، ولو نُحرت شهرزاد العربية مئات المرات بقوانين وأعراف شهريارات المجتمع اليوم.
رقبة مريم العاجية تحمل ذلك الرأس الجميل والشعر الأحمر (أيضاً أتخيله هكذا في أفلام الأبيض والأسود) تحدق ساهمة في عيون عبدالحليم حافظ، وهما يجلسان على رصيف بشاطئ النيل يغني لها، "قولوله الحقيقة" في فيلم حكاية حب، وقفت طويلاً مع والدتي كي نشتري تذاكر بسينما "الحمرا" عام 1959 أو 1960 لأجل حليمو ومريم، طوابير طويلة امتدت عند سينما الحمرا والفردوس لمشاهدة فيلم العندليب والشقراء… وما أسرع طيش أحمد (عبدالحليم) حين وقع في غرامها من "أول دقيقة"، الحب لا يعرف حكمة "العجلة من الشيطان"، فالحرمان يلقي بأصحابه في وديان "العشق من أول نظرة" العميقة و"هيامات" العذاب اللذيذ من أجل المحبوب، كان يمكن تجنب العذاب، إلا أن الأحبة الشرقيين لا يفعلون، "مازوخية" أو عشق تعذيب الذات كي يبدع الشاعر في شعره والمطرب في فنه، قال من هذا د. صادق جلال العظم، الكثير في كتاب "في الحب والحب العذري"، فلا حاجة كي أعيد.
أتذكر عيون مريم الخضراء (أكرر أتخيلها) والفم الصغير وجسدها الباسق، وكل جميل فيها، وأتأمل الآن صورتها بعد أن قذف بها الزمن إلى الحاضر، كل سنة مرت من عمرها حفرت أخدوداً في وجهها الصافي، وترهلاً بالجلد، ووهناً بالنشاط، وضياعاً بالذاكرة، وقرباً بصاحبتها من نهاية الوجود.
أين ذهب ذلك الوجه وذلك الجسد؟ دفنهما وقبر صاحبتهما الزمن كما سيقبرنا يوماً ما.
كتب مارتن هايدغر "أرسطو ولد وكتب ومات"، وأقول "مريم ولدت ومثّلت وماتت"، وهكذا نحن مع عبثية الحياة.