«إنَّ الذينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشةُ في الذينَ آمنُوا لَهُمْ عذابٌ أَليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ واللَّهُ يعلَمُ وأَنتم لا تعلمون» (النور، 19).
من بين العديد من الرسائل الإلكترونية التي استلمتها تعقيباً على مقال الأسبوع الماضي «قصة جلاد»، وردت رسالة مدهشة في الحقيقة! فغالبية الردود كانت تتحدث عن الثقة بعدالة رب العالمين في إيقاع العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة على من يظلم الناس ويسلب حقوقهم ويفتري عليهم وينتهك أعراضهم فينال جزاءه العادل، غير أن الرسالة المذكورة فيها صحوة ضمير مذهلة، بل والأكثر من ذلك، أنها يمكن أن تكون بمثابة اعتراف من إنسان أخطأ وأذنب وتجاوز حدوده، ثم انتابته حالة صحوة ضمير. وهكذا وصف المرسل حاله، راغباً في أن يستفيد الناس من رسالته لا سيما الشباب من الجنسين.
يتحدث المرسل الذي فضل تسمية نفسه «التائب النادم» في رسالته عما كان يمارسه من سقوط أخلاقي كبير، فكان ينشط في المواقع الإلكترونية المحرمة التي تنشر الفساد والسقوط والصور والأفلام، حتى أنه يشير إلى امتلاكه عشرة حسابات موزعة على حسابي التغريد «تويتر» والصور «الانستغرام»، ووسائل إعلامية الكترونية أخرى منها تسجيله في العديد من المواقع العربية والعالمية المخصصة لنشر الفساد الأخلاقي، فكان عضواً نشطاً في كل تلك المواقع ولكن كلها بأسماء امرأة خليجية ساقطة تعشق الحرام.
ويقدّم المرسل عناوين لقصص شهيرة انتشرت على تلك المواقع حسب قوله، وكان يمثل دور المرأة الساقطة ويدعي أنها قصص حقيقية وقعت بينه/ بينها وبين عشاق من مختلف الفئات والمناصب، ناهيك عن آلاف الصور والتغريدات والمشاركات، وكان يستمتع كثيراً بالعرب والخليجيين الذين كانوا ينشطون في مواقع الدردشة (التشات) في أوج انتشارها ونشاطها قبل سنوات، أي قبل أن تتراجع ويتقدم عليها «الفيس بوك» و»تويتر» و»الانستغرام»، حيث كان أولئك المدردشون في قمة تصديقهم أن من تتحدث معهم امرأة، وكثيراً ما نجح في خداعهم لشحن هواتفه النقالة على حسابهم!
بالمناسبة، وحسب ما يقول المرسل والله أعلم، أنه مواطن خليجي في الثلاثين من العمر، وليس نشاطه الشرير الشيطاني ذلك يقتصر على مواقع الفسق والفجور والحرام، بل كان يشارك أيضاً في منتديات تأخذ مسميات إسلامية لكنها بالنسبة له كانت هي الأخرى فسق وفجور وحرام! فكان بين الحين والحين، يتنقل بين المواقع السنية ليمثل دور عضو شيعي فيشتم رموز أهل السنة ويهاجم معتقدات السنة، والحال ذاته يتنقل بين المواقع الإلكترونية الشيعية فيمثل دور عضو سني فيكفّر الشيعة ويشتم مراجعهم وينشر الصور والمقاطع المتلفزة التي تحفز من هم مثله من الطائفيين، من الفريقين، ليشعل الخلاف والشتائم والعداوة.
هناك الكثير من الكلام الذي ورد في الرسالة مما لا يمكنني نشره، ففي بعضه لا يمكن أن يدخل العقل إطلاقاً، وفي بعضه الآخر مجونٌ يصل إلى مستوى القذارة التي لا تليق بالقارئ الكريم، ولعلني بعد أن أرسلت رسالتين محاولاً تبيان حقيقة هذه الرسالة، وللحصول على إجابات على بعض تساؤلاتي، وجدت رداً واحداً يقول: «بتصدقني كيفك… ما بتصدقني كيفك.. ابغي احذر الناس. أنا واحد والله تائب.. وأتمنى الله يغفر لي ويتوب علي وأتمنى تدعون لي ولأمثالي».
ولعل السؤال الأهم الذي كنت أود الحصول على إجابة عليه: «هل هو يفعل ذلك من تلقاء نفسه؟ أليس هناك من يقف وراءه ويوظفه لأهداف الإفساد ويموّله؟ هل هو فرد من منظومة الإعلام المحظور التي تشرف عليها أطراف صهيونية وغربية تهدف إلى إفساد فئة الشباب – من الجنسين – في المجتمعات العربية والإسلامية؟».
إلى حدٍّ ما، لا يمكن إنكار وجود أمثال هذا الإنسان (التائب النادم) الذي نتمنى أن يهدينا الله ويهديه إلى الصلاح والخير والطمأنينة وعذوبة الإيمان، وفي إطار بحثي عن هذه الظاهرة في المجتمع الخليجي والعربي، وجدت كتاباً قيّماً لكنه غير مشهور، مع شديد الأسف، بعنوان: «التربية الإعلامية… كيف نتعامل مع الإعلام؟»، للباحث المؤلف فهد بن عبدالرحمن الشميمري، الذي وضع اليد في الفصل العاشر من الكتاب على آثار ظاهرة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الالكتروني والقنوات الهابطة وخطورتها على الجوانب الأخلاقية والقيمية. وفي الفقرة السابعة من موضوع «نتائج انتشار الثقافة الهابطة والإعلام السلبي»، يؤكّد الشميمري في بحثه على استهداف إثارة الغرائز الجنسية، وتشجيع انتشار الرذيلة، والترويج لشرب الخمور، وتناول المسكرات، وتعاطي المخدرات، ولا يكون ذلك بإعلانات مباشرة، ولكن بالتضمين والإدراج والإيحاء، في سياق المحتوى الإعلامي، الذي يجعل من هذه الانحرافات شيئاً شهياً مغرياً، يحفز الإنسان لتجربته.
ويحذر الكاتب من أن وراء ذلك فعلاً خطيراً وتأثيراً مدمراً في خلخلة فكر المجتمعات وقيمها ونسيجها وترابطها، وإعاقة حركة نهوضها وتقدمها وتنميتها البشرية، وتحويل الشباب العربي إلى مستهلكين شديدي الولاء للجوانب السلبية في الثقافات الأجنبية، فلا يتم تسويق قيم العمل وأخلاقه، ولا البحث العلمي وأدواته، ولا الالتزام المجتمعي ومؤسساته، ولا الحراك الحضاري وآلياته، وإنّما يقوم الإعلام السلبي بتسويق أخلاقيات الشوارع المظلمة، والطبقات السفلى من الثقافات الأجنبية.
لاشك في أن تلك النماذج موجودة وتعمل بفاعلية في فضاء الإعلام الإلكتروني عالمياً وخليجياً وعربياً، ولكنني أرى أن انتشار الممارسات المتطرفة وغياب الاعتدال ومعاني التسامح وتلميع الطائفية وممارسيها في المجتمعات العربية والإسلامية، هي منفذ كبير يتيح لتلك الجراثيم المدمرة أن تعمل. ومع ذلك، يشير الكثير من الباحثين الاجتماعيين إلى أن الانتشار المذهل للإعلام الإلكتروني ووسائله ووسائطه، جعل الكثير من الآباء والأمهات يهملون مراقبة الأبناء، بل ويجد البعض صعوبة في إمكانية المراقبة! إلا أن النتيجة التي يجب أن نعيها جميعاً، هي أن تلك الجراثيم المدمرة، لا يمكن أن تنجح إذا كنا نحصّن أنفسنا وعيالنا ومجتمعاتنا بأخلاق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ونسمات الفضيلة والكرامة وبناء الشخصية المغروسة بالقيم الطيبة.