ظل يتنقل في جلسات الضحى من “عاير” لعاير بالدمنة (السالمية قديماً)، العاير هو طرف زاوية الحارة أو نهاية الشارع حين يلتقي بساحة ترابية، وعادة هو مكان للتنفيس والفرجة على الرائحين والغادين في ساعات الملل الطويلة، كان حمد يجلس عند هذا أو ذاك العاير. أحياناً، أجده يعزف الناي، ويطربنا بأغان خفيفة لفريد الأطرش، وحوله بضعة من أولاد الفريج (الحي) وأحياناً أخرى، أصادفه يعزف على العود بمهارة يحاكي فيها بعزفه حسب وصفه ملك العود، وهو فريد الأطرش أيضاً، وكأنه لم تخرج لنا قط موسيقى شرقية من غير أنامل فريد، كان حمد يحاكي فريد بمقدمة تقاسيم منفردة لأغنية أول همسة أو الربيع، كان يقلده حتى بالنحنحة كي يصفو صوته قبل الوصلة الغنائية، يقول حمد إنه حتى نحنحة فريد كان فيها نغم جميل لا يسهل تقليدها.
مرات أخرى وبأيام الطفولة والمراهقة، وهناك بالسالمية مقابل الشاطئ عند بيتنا القديم قرب مركز سلطان حالياً، أشاهد حمد فاتحاً غطاء سيارته “الفيات” القديمة، يفكك ماكينتها، يصلح عيباً فيها، لم أكن أعرف سبب العطل، لكن حمد كان يعرف سبب عطلها وكيف يقضي الساعات الطويلة، يصلح عطباً مجهولاً، يعمل وكأنه ساحر يفكك ثم يعيد تركيب الماكينة السكراب، كان ميكانيكي سيارات بدون معلم، مثلما كان عازفاً للعود أيضاً من غير أستاذ موسيقى، الفراغ ونمطية الزمن الجامد علماه كيف يقتل الوقت، مثلما يقولون، بينما الوقت، هو الذي يقتلنا ببطء، أخبرني مرة، أنه “انجبر” (عشق) طالبة مدرسة بالديرة، لم تكن تعرفه أو تدري عنه، وحدث أن تعطل “باص” مدرستها وكانت راكبة فيه مع بقية الطالبات، فهرول للباص محاولاً إصلاحه عله يجذب انتباهها وتعطف على أشواقه الملتهبة، حين عجز، طلب من سائق الباص أن يبقى بمقعد القيادة، وسيقوم هو بدفع الباص الكبير بسيارته البائسة… انقطعت أنفاس “الفيات” الصغيرة، تحاول أن تدفع الباص المتعطل، لكن من دون جدوى، فتراجح حمد بالفيات للخلف قليلاً، وتقدم للأمام فجأة وصدم مؤخرة الباص بقوة، تحرك الباص ومضى، بينما تهشمت سيارة حمد وبقي حمد ينظر للباص يتباعد، لم تلتفت إليه ولم تدر عنه المعشوقة المجهولة، مضى الباص في طريقه، وبقي حمد جالساً ساهماً في سيارته المعطوبة يجتر لحظات خسارة فقْد نظرة يتيمة من المعشوقة.
تمضي الأيام مسرعة، الدنيا تتغير وتتبدل، حياتنا تندفع للأمام مثلما دفعت فيات حمد باص المدرسة، تسير نحو النهايات المحتومة، نتغير مع الزمن، وتفرض زحمة الوجود بالناس والأشياء تناسي الكثير حولنا حين تسلبنا ذواتنا وحرياتنا، بينما بقي حمد هو حمد، يرفض الزمن وجدليته، كان يرفض الكثير، من الحقائق، طالما ظلت فكراً، لم يلمسها بيده، فالأرض ليست مستديرة عنده، ولو كانت مستديرة، فهذا يعني أننا لو حفرنا نفقاً بلا نهاية من جوف الكويت، فسنجد أنفسنا بأميركا بنهاية النفق، ظل حمد يحاول أن يقنع د. عزيز السلطان بهذا الثقب العميق، رد عليه الأخير بأنه من الممكن أن نجد أنفسنا بواشنطن عند نهاية النفق، حسب نظرية غاليليو حمد، لكن أين هي الآلة التي يمكنها حفر مثل هذا الثقب؟! ومرة أخرى كان حمد يجادل حقيقة دوران الأرض حول نفسها، ويقول، مثلاً، إنه لو ركبنا هيلوكبتر وبقينا فيها مرتفعين بالهواء دون حراك ساعة أو ساعتين، فسنجد أنفسنا حين نهبط أننا بمكان آخر غير الأول، لو كانت الأرض تدور حقيقة! كان حمد يتحدث بجدية راسخة، وإن كان يستبطن الهزل بمثل تلك النظريات المروعة.
قرب دكان “دوبي” هندي، وهو الرجل الذي يمتهن غسل وكي الملابس، وعند “عاير” بيت حمد صادفته مرة، قبل سنوات طويلة، سألته بماذا تفكر ساهماً، أجاب بأنه يتمنى أن يصنعوا “ربع” أصدقاء “بغواطي” (علب) جاهزة، فحين يحاصرك السأم هنا في بلدك الأصيل، يمكن أن تفتح علبة أصدقاء مثلما تفتح علبة سردين وتجد صديقاً يخفف عليك من هم الوحدة… فكرة غير معقولة في زمن اللامعقول، لعل حمد كان يستلهم عبثية الحياة من دون قراءة أدب العبث واللامعقول، ومن دون دراية بروايات وقصص كامي أو سارتر أو جان جينيه.
مضت سنون ممتدة، كدت أنسى معها حمد حتى قرأت اسمه قبل ثلاثة أيام، مصادفة، بصفحة الوفيات، مات حمد بصمت في أحد المستشفيات… لم يكن بقربه وقتها “ربع بغواطي”… ارتاح، رحمه الله، بينما بقينا نتجرع مرارة زمن “الغواطي” الفارغة.