غالباً ما يكون الواقع السياسي ـــ بكل إشكالاته ومشكلاته ـــ انعكاسا لطبيعة النظام السياسي القائم، فإذا كان النظام فئويا، يقوم على المحسوبية والمصالح الخاصة، فإن ذلك ينعكس على سلوك الناس بشكل تلقائي، وهذا ما عبّر عنه أول رئيس وزراء لسنغافورة في كلمته الشهيرة، عندما قال: تنظيف البلاد من الفساد مثل تنظيف الدرج، يبدأ من الأعلى نزولاً للأسفل!
كثيرا ما نسمع الشكوى من القبلية والطائفية، وتحميل الناس مسؤولية تفشيها في المجتمع، وربطها بتخلف وتراجع البلد، لكن برأيي لا يمكن استنكار ذلك إذا كان النظام السياسي في البلد بطبيعته يغذي تلك النزعات في سلوكه وقراراته، من خلال تشكيل النظام الانتخابي الذي يتحكم في نوعية المخرجات ويضع في الحسبان تلك المعايير الفئوية، بالإضافة إلى رعاية الواسطة أو السكوت عنها، وتوزيع المناصب والهبات بناء على محاصصة ومحسوبية، كل ذلك يرسّخ في وعي الناس أن الدولة لا تنظر إليهم كمواطنين متساوين في الحقوق، وإنما تنظر إليهم من جهة الفئة التي ينتمون إليها، وتتعامل معهم على أساسها، فتكون النتيجة الطبيعية تفشّي تلك النزعات.
من أهم وظائف السلطة في الدولة الحديثة إيجاد هوية وطنية مشتركة تمثل المظلة العامة والوحيدة في الدولة، وتجعل المواطنين غير محتاجين لإبراز هوياتهم القبلية أو الطائفية إلى الفضاء السياسي، لأن هذه الهويات غير مؤثرة وليست محل نظر من الدولة، وإنما المؤثر هو مدى تمسك الناس بالهوية المشتركة والقيام بمقتضياتها، بناء على ما توفره الدولة من حماية لهم ورعاية لمصالحهم وضمان لحقوقهم، وبذلك يقاس نجاح السلطة السياسية أو فشلها في بناء تلك الهوية المشتركة، أما إذا كان السلوك السائد عند القائمين على النظام هو إحياء الهويات الطبيعية، والتعامل على أساسها، فهنا لا يقع اللوم على الناس بسبب رجوعهم إلى هوياتهم الأصلية وتمسكهم بها، وإنما يقع اللوم على بعض النظم السياسية، لأنها لم تنجح في أن تُحِل الهوية الوطنية المشتركة محل الهويات الطبيعية.
يمكن تسمية النزعة الطائفية والقبلية بالهوية الطبيعية، لأن الإنسان يلجأ إليها بشكل طبيعي، حيث يرى أن أمنه ومصالحه يتحققان في إطار أقرب المكوّنات إليه، وهذا سلوك طبيعي لأي إنسان، ولا يمكن أن يتنازل عنه إلا إذا وجد نظاما بديلا قادرا على أن يُشعره بالأمان ويقوم برعاية مصالحه وضمان حقوقه، عند ذلك يمكنه التخلي عن نزعته القبلية أو الطائفية، أما إذا ظل الناس متمسكين بهوياتهم الطبيعية وجماعاتهم الأولى، فهذا يعني أن الهوية الوطنية المشتركة لم تعد تضمن تحقيق مصالحهم أو تشعرهم بالأمان في ظلها، فيرجعون بشكل تلقائي وطبيعي إلى انتماءاتهم الأولى ليتحصّنوا بها.. ويكون النظام السياسي هو المسؤول عن ذلك، وليس العكس!