من الحقائق الجديدة في الصناعة النفطية أن عرض النفط الصخري يعد مرتفع المرونة بالنسبة للتغيرات في السعر مقارنة بالنفط التقليدي، أي أنه أسرع استجابة للتغيرات في سعر النفط، فمع ميل سعر النفط نحو الارتفاع يأخذ العرض من النفط الصخري في الاستجابة بالزيادة بصورة أسرع من النفط التقليدي، والعكس عندما تنخفض الأسعار فإن الاستثمار في مجال إنتاج النفط الصخري ينخفض بسرعة وتقل أعداد منصات التنقيب عن النفط بالتبعية. لهذا السبب ذكرت كثيرا أن استراتيجية “أوبك” في الحرب على النفط الصخري هي استراتيجية خاسرة، ولن تنجح إلا في ظل سيناريو واحد وهو أن تستمر “أوبك” في الضغط على الأسعار لتظل عند مستويات أدنى من سعر التعادل لإنتاج النفط الصخري، وهو وضع لا تستطيع “أوبك” أن تتحمله أصلا لفترة معقولة من الزمن.
فمن الناحية المالية تتطلب ميزانيات هذه الدول أسعارا مرتفعة للنفط حتى تحقق إيرادات مناسبة تتوافق مع مستويات الإنفاق المرتفعة التي تعودت عليها هذه الدول منذ فترة. فإذا لم يتحقق ذلك فإن ميزانيات هذه الدول ستواجه عجزا مستمرا تتلاشى معه الفوائض الحالية من الاحتياطيات بل وتضطر هذه الدول للاستدانة لسداد عجوزات ميزانياتها. معنى ذلك أن إبقاء “أوبك” على الأسعار منخفضة لفترة طويلة هو بمثابة حرب تعلنها على نفسها وليس على منافسيها من منتجي النفط غير التقليدي.
مع استراتيجية “أوبك” في إغراق السوق لإخراج المنتجين مرتفعي التكلفة، أخذت أعداد منصات التنقيب عن النفط الصخري في التراجع مع تزايد حالات الإعسار المالي بين المنتجين نظرا لشح السيولة. على سبيل المثال يقدر أن نحو ألف منصة قد تم تعطيلها عن العمل منذ بداية العام الماضي، كذلك يقدر أن نحو 60 في المائة من معدات التكسير في حقول النفط الصخري قد توقفت بالفعل عن العمل، وهو ما نظر إليه على أنه انتصار ساحق لـ “أوبك” على النفط الصخري.
كنت وما زلت أؤكد أن ما يتم الحديث عنه من تحييد صناعة النفط الصخري هو أمر مبالغ فيه، وأنه ما إن تعود الأسعار إلى مستويات قريبة من سعر التعادل فإن الروح ستدب في حقول النفط الصخري مرة أخرى، وسيعاود المنتجون الاستثمار والإنتاج بسرعة أكبر مما يتوقع الكثيرون.
في شباط (فبراير) الماضي بلغت أسعار النفط أدنى مستوياتها عند 26 دولارا تقريبا، ومنذ ذلك الوقت أخذت الأوضاع في سوق النفط اتجاها معاكسا بصفة خاصة شهدت الأسابيع القليلة الماضية عدة تغيرات في العرض العالمي من النفط على النحو الذي أدى إلى تضاعف أسعار النفط تقريبا، حتى بلغت أكثر من 50 دولارا للبرميل “خام برنت”. في نيسان (أبريل) الماضي ومع استمرار الأسعار في الارتفاع أعلن عدد كبير من المنتجين للنفط الصخري أن سعر 50 دولارا يعتبر كافيا بالنسبة لهم للعودة واستئناف الإنتاج، وهناك تقديرات أن أكبر 50 شركة منتجة للنفط الصخري تحقق تعادلها عند سعر 53 دولارا.
آبار النفط الصخري القائمة حاليا في الولايات المتحدة نوعان؛ آبار غير منتهية، أي آبار كانت عمليات إنتاج النفط الصخري فيها سارية، وبسبب أوضاع سوق النفط اضطر المنتجون في هذه الآبار للتوقف عن الإنتاج قبل الانتهاء من استغلال كل النفط المتواجد فيها بالكامل، ووفقا لبلومبرج فإن هذه الآبار يبلغ عددها نحو 4300 بئر. أما النوع الثاني فهو الآبار الجديدة التي لم تبدأ عمليات الإنتاج فيها بعد، وهذه تنتظر أن يصل سعر النفط إلى نحو 60 دولارا أو أكثر، حتى يصبح الاستثمار فيها مجديا.
مع دخول سعر النفط نطاق الخمسينات كان ذلك كافيا لبدء عودة كسارات الصخر إلى حقول النفط الصخري التي لم يتم الانتهاء منها بعد وبصورة مبكرة جدا، ولكن ما الذي دفع منتجي النفط الصخري إلى هذه العودة المبكرة نسبيا للإنتاج؟، من وجهة نظري هناك عوامل متعددة لعل أهمها هو:
ــــ سهولة العودة للحقول غير المنتهية لأنها لا تتطلب الحجم نفسه من الاستثمارات التي يحتاج إليها المنتجون للبدء في الحقول الجديدة.
ــــ أن مستوى الأسعار فوق 50 دولارا يعد سعرا مناسبا للكثير من منتجي النفط الصخري، خصوصا بالنسبة لعمليات الإنتاج في الآبار غير المنتهية.
ــــ أن توقعات الطلب والعرض في السوق العالمية للنفط الخام في المستقبل القريب تشير إلى أن تخمة العرض الناتجة عن ضخ الدول النفطية للنفط آخذة في التلاشي، وأن الطلب على النفط آخذ في التصاعد ما يعني أن المستويات الحالية للأسعار ستستمر في الارتفاع نسبيا إلى الحد الذي يتخطى حاجز نقطة التعادل.
ــــ إن الحديث يتزايد عالميا عن عودة التوازن للسوق النفطية، ما يعني وقف الاتجاه التنازلي للأسعار ومن ثم التمهيد للأسعار نحو الارتفاع، وهذا هو ما ساعد على بدء عودة المنتجين إلى الحقول التي هجروها مع انخفاض الأسعار.
ــــ إن التوقعات التشاؤمية حول مستقبل أسعار النفط انعكست بشكل واضح في الوقت الحالي، وإن نبرة التشاؤم في التقارير العالمية وتقارير دور الخبرة الاستشارية حول مستقبل أسعار النفط قد تغيرت بشكل واضح.
في رأيي هذه العودة المبكرة لبعض منتجي النفط الصخري تحمل أخبارا غير سارة لـ “أوبك”، خلاصتها أن الحرب على النفط الصخري، كما أشرت مرارا وتكرارا، لن تنجح، وأن على “أوبك” أن تتقبل وجود هذا المنتج الجديد في الصناعة النفطية، وأن تركز “أوبك” جل اهتمامها على تعظيم عوائدها من ثروتها النفطية الاستثنائية، لا إهدارها بأسعار زهيدة من خلال إغراق السوق بها.
بقي أن أشير إلى أن التوازن الذي يتم الحديث عنه في السوق النفطية حاليا هو توازن ناتج عن أوضاع طارئة، أكثر من كونه توازنا طبيعيا للسوق، حيث يعود لعوامل مؤقتة ناتجة عن تعطل بعض الإمدادات من كندا ونيجيريا واستمرار سوء الأوضاع في ليبيا، وأنه ما إن يتلاشى تأثير هذه العوامل ستعود الأسعار إلى التراجع مرة أخرى، ومن ثم فإن العودة الحالية لمنتجي النفط الصخري قد تكون مؤقتة، لأنها تستلزم استمرار الأسعار مرتفعة فوق الـ 50 دولارا وهذا أمر على ما يبدو غير مضمون في الأجل القصير والمتوسط في الوقت الحالي.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟