العملية الفلسطينية التي وقعت في تل أبيب في التاسع من هذا الشهر تؤكد أن ردة الفعل على العنف الإسرائيلي والتمدد على الأرض الفلسطينية أصبح منوطاً بأفراد يعيشون تحت الاحتلال. كان العنف الفلسطيني في السابق نتاج عمل المنظمات السياسية والعسكرية الفلسطينية، وكان يخدم أهدافاً سياسية حول الحقوق وتحرير الأرض، لكنه الآن بيد أفراد المجتمع الفلسطيني الفاقدين الثقة بالقوى السياسية المنظمة. ممارسة العمل المسلح والسياسي من قبل أفراد لا علاقة لهم بالعمل المنظم هي نتاج وصولهم لحالة من الأسى العميق ممزوجة ببارقة تفاؤل ورغبة جامحة في إثبات الوجود السياسي والوطني والحقوقي. إن طبيعة الانتفاضة الفلسطينية المندلعة منذ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٥ تؤكد بأن مدرسة العمل الفردي تزداد انتشاراً في كل فلسطين.
عنف هذا الجيل من الفلسطينيين ما هو إلا ردة فعل على عنف الاحتلال الذي يعبر عن نفسه بإطلاق النار والإعدامات الميدانية والاعتقال والسجن ومصادرة الحقوق وسرقة الأرض ونشر المستوطنين وإطلاق عنفهم ضد الفلسطينيين. كل شيء مغلق في وجه الشباب الفلسطيني، فلا يوجد أمل بوطن مستقر وبلا بعمل مستمر ولا بحقوق واضحة ولا بأرض ومنازل لا تصادر كل يوم ولا بهوية وجواز سفر تقبله كل الدول. كل ما يختبره هذا الجيل الفلسطيني، الذي ولد مع اتفاقات أوسلو وطرحها المتفائل عام ١٩٩٤، ينبئ باستمرار التهجير والحصار وتشتيت العائلات في غزة والقدس وفي الخليل وفي صفوف عرب ١٩٤٨. هذا الجيل نشأ في ظل أوضاع تتحدث كل يوم عن دولة فلسطينية ومفاوضات نهائية لحل القضية الفلسطينية بينما في الممارسة يشاهد وأد مشروع الدولة الفلسطينية في ظل مفاوضات لا نتيجة منها.
إن تطور الحالة الفلسطينية على يد شبان وشابات لا علاقة لهم بالعمل السياسي المنظم مربك لسياسات إسرائيل، فهي في هذه اللحظة لا تتواجه مع منظمات معروفة، كـ «حماس» و «فتح» و «الجبهة الشعبية» وغيرها، التي تحسب خطواتها قبل الإقدام على عمل عسكري. إن العمل العسكري الذي كان يحتاج في السابق الى جهود كبيرة وتنظيم وشبكة علاقات وتمويل وتخطيط طويل تقوم به «فتح» أو «حماس» و «الجبهة» للرد على الاحتلال، يقوم به اليوم مواطن عادي لم يسبق له القيام بعمل سياسي سابق. هذه ظاهرة ستتطور، بسبب توافر الظروف الموضوعية أمامها. فهذا الشكل من المقاومة، بسبب سهولة الحصول على السلاح وتصنيعه وسببب طبيعة العولمة وانتقال طرق التعلم والمعرفة عبر الأثير يصبح خياراً ممكناً عندما يكون أبسط الناس في حالة اضطهاد وانتهاك من قبل احتلال يتميز بعنفه وغرور سياساته. الناس العاديون الذي ينضمون لعمل مفاجئ من دون أن يكون لديهم سجل سياسي أو نضالي سابق بعيدون عن قدرة الأجهزة على رصدهم.
والأهم في المعادلة الفلسطينية الراهنة (أسوة بالمعادلات العربية الراهنة) أنها موقتة، وهذا ما تعكسه حالة الانتفاضة/ الهبة الفلسطينية الراهنة وفردية هجماتها. هناك فراغ كبير في الوضع الفلسطيني وفي الصراع على أرض فلسطين، وهذا الفراغ الكبير ينتظر من ينجح في ملئه. في الجوهر لا تستطيع القوى السياسية والعسكرية الفلسطينية، الرسمية وشبه الرسمية، التحرك إلا ضمن دائرة ضيقة وذلك بحكم ظروفها السياسية والقيود المفروضة عليها، لهذا أصبحت المبادرة، بطبيعة الحال، في قاع المجتمع الفلسطيني الذي لا يوجد أمامه ما يخسره أمام المحدلة الإسرائيلية وسعيها لسحق من يتجرأ على إيقافها. ويتضح أيضاً أن استمرار هذا الغليان سيؤدي مع الوقت إلى بروز قوى فلسطينية جديدة تحمل بعداً سياسياً، وأن هذه القوى ستملأ الفراغ تماماً كما وقع في التاريخ الفلسطيني سابقاً مع حركة «فتح» عام ١٩٦٥ وحركة «حماس» عام ١٩٨٨. المرحلة القادمة في الوضع الفلسطيني تزداد استعداداً لفرز حالة جديدة.
من ينجح في التعامل مع الفراغ الراهن سوف يقود الساحة الفلسطينية ويترك الأثر تلو الأثر عليها. والعنف، بهذا الشكل أو ذاك، هو الطريق الذي فرضته إسرائيل على ضحاياها الفلسطينيين. لكن لا يشترط أن يكون العنف الفلسطيني وحده هو الطريق المؤدي لتحرر الفلسطينيين النهائي، ففي النهاية لا تحرر من دون رؤية ووسائل قادرة على تحريك كل الناس وكسب الأصدقاء في العالم بل وفي الوسط العالمي واليهودي. سلوك إسرائيل اليومي والعنيف يجعل أشكال المقاومة المدنية القائمة اليوم في الوضع الفلسطيني أقل تأثيراً، لكن هذا الوضع سيفرز مجدداً أشكالاً جديدة للنضال والتحرر.
إذن العنف الراهن في الوضع الفلسطيني، ليس نهاية بحد ذاته، ويجب أن لا يُنظر إليه بمعزل عن العنف الإسرائيلي الذي يمارس كل يوم على أجساد الفلسطينيين. بل من الخطأ المقارنة بين العنف الفلسطيني وظروفه وعمل إرهابي كذاك الذي وقع منذ أيام في ملهى في أورلاندو أو تلك الاعتداءات على المدنيين التي وقعت في بلجيكا أو فرنسا. العنف الفلسطيني محدد في إطار التحرر الوطني وهو يقع على الأرض الفلسطينية المحتلة حيث الاحتلال والقهر ومنازل الفلسطينيين المصادرة وحقوقهم المسلوبة، لهذا فالعنف الفلسطيني أقرب إلى العنف الذي مارسه أبناء وبنات جنوب أفريقيا لعقود ضد عنف نظام الفصل العنصري، وهو بعيد بأميال عن العنف الذي يمارس من الجهادية الإسلامية أو أفراد يؤمنون بطروحاتها في النظام الدولي.
في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي دعم وتأييد من الشارع الفلسطيني والعربي لكل من واجه الكيان الإسرائيلي وحقق نصرا جزئياً. شعبية «حزب الله» العربية في المرحلة السابقة وقبل أن يتورط في دعم نظام الأسد ضد الثورة، ارتبطت بمقاومته الناجحة للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. كما أن جانباً أهم من قوة إيران الإقليمية والسياسية ارتبط بإمساكها بخط سياسي يتواجه مع الصهيونية، حتى لو كان هذا الخط شكلياً، إلا أنه يتناقض مع الخط السياسي الذي يدعو إلى التطبيع ونسج العلاقات أو تجاوز الشعب الفلسطيني. والمنطق ذاته ينطبق على الدول العربية بقيادة مصر وسورية عندما خاضتا سوياً حرب ١٩٧٣ بدعم خليجي وسعودي، وهو نفسه يحدد مكانة تركيا التي حددت مواقف مختلفة عن السياسات الإسرائيلية. إن نجاح الناصرية العربية في زمن عبد الناصر في الخمسينات والستينات ثم نجاح الحركات الإسلامية العربية بعمقها العربي والخليجي ارتبط في جانب هام منه بالقضية الفلسطينية ومكانتها في الضمير العربي. لهذا، ففي ظل الفراغ حول القضية الفلسطينية على المستوى الفلسطيني والعربي من الطبيعي أن ترفع الناس والأمة كل من يتمسك بالقضية الفلسطينية وينصرها. هذه ديناميكية في المشهد القادم ستترك أثراً كبيراً على توجهات العالم العربي.
إسرائيل تعمل على إلغاء الوجود الفلسطيني من خلال تفتيته وعزله في مناطق متفرقة وذلك بالرغم من وجود أكثر من ٦ ملايين فلسطيني على الأرض التاريخية. لكن بفضل أعمال الشبان الفلسطينيين الأخيرة يؤكد الشعب الفلسطيني مكانته على الأرض. عنف المشروع الصهيوني ذو الطابع الإجلائي والاستيطاني يستجدي ردود فعل مختلفة من ضحاياه.