لا يكرهني أحد كما تكرهني ذاكرتي، ولا يستفزني شيء كما تستفزني. هي الأنذل على الإطلاق، وهي من يخذل صاحبه وقت الحاجة، عليها من الله ما تستحق وما لا تستحق.
وتتحدث العرب، بدهشة، عن حماد الراوية، الذي يحفظ المعلقات السبع، وأكثر من ألف ومئتي قصيدة كاملة، بتاريخها وأسبابها وزمنها، ويحفظ على كل حرف من الحروف الهجائية أكثر من مئة بيت، ويحفظ ويروي، فيغدق عليه الخليفة الأموي الأموال والمزارع والجواخير والشاليهات والمناقصات والإبل من أحدث طراز.
وتتناقل العرب، بدهشة، أخبار ذاكرة الوشيحي، التي انفلقت فجأة فتساقط مخزونها وتناثر كل ما فيها، لسبب لا يعرفه أحد. وتتضاحك العربان من وهن ذاكرة هذا الوشيحي، الذي اتفق مع أصحابه من طلبة الكلية العسكرية في القاهرة أن يكون هو المتحدث نيابة عنهم أمام سمو ولي العهد حينذاك، المرحوم الشيخ سعد العبدالله، ورئيس الأركان، فنهض ليتحدث، فنسي بعض المطالب، وضاعت عليه وعليهم فرصة العمر.
وكان الوشيحي يحفظ من القرآن أربعة عشر جزءاً كاملاً، وآيات وسوراً أخرى، في سني مراهقته، فتبخر أغلبها من الذاكرة. وكان يحفظ من القصائد ما يثقل ظهر البعير، فتطايرت ولم يبق منها إلا ما يحمله العصفور بطرف جناحه.
وقيل لي إن المكسرات والكرز والشاي الأخضر تنشط الذاكرة وتقتل النسيان، فصاحبتُ بائع المكسرات، واستبدلت الشاي الأحمر بالأخضر، وجربت أنواع الكرز، فازداد وهن الذاكرة، وتضاعفت تجاعيدها، وكأنما تعاندني وتتعمد إغاظتي.
وأبذل جهداً، هذه الأيام، لتعلم اللغة التركية، وأداوم على حفظ الكلمات، فتتداخل كلمتا “المجلة والمعرض”، أيهما سيرقي وأيهما ديرقي، وأدوخ ما بين “يتجمد ويستدير”، وألفّ السبع لفّات، وألعن علم اللغات، والإنسان الأول الذي لم يوحد اللغة.
وإن كان لي دعوة مقبولة في هذا الشهر الكريم، فاللهم أعد لي ذاكرتي، أو فلتفتتها حتى أيأس منها وأرتاح.