أسى يضرب نفوسنا التي تتدحرج بسرعة لقاع الكهولة، ليس لوفاة محمد علي، أسطورة الملاكمة؛ وإنما هو أسى على غياب سنوات عُمْر وفَقْد زمن، هو أسى وحسرة على تلاشي عمر ملأ به محمد علي فراغاً كبيراً في وجداننا. منتصف الستينيات انتصر محمد علي الوسيم على لستون بطل العالم آنذاك، بعد أن صورْنا الأخير قبيحاً في مخيلتنا المتعصبة للوسامة والشباب، وليعلن، بعد وقت قصير، كاسيوس كلي إسلامه على نهج أمة الإسلام الأميركية. وليست هذه كل القصة التي تعاصرت مع الكثير في ذلك الزمن، هو زمن الستينيات الرائع، زمن المراهقة حين تشتد ضربات قلوبنا مع خيال سارح يدور بلا كلل باحثاً عن مغامرة حب وعشق لفتاة تشبه نجمات السينما المصرية، قد تكون هذه بنت الجيران، لها لون شعر وتسريحة نادية لطفي، وعيون سعاد حسني، وأنوثة طروب، قد تكون قريبة لنا أو بعيدة، لا يهم من تكون، فنحن تحاصرنا قواعد المنع المحافظة، وتكبل قيودُها رغباتنا الطبيعية، في مفارقة، كانت هذه الدولة تحيا أزهى عصرها الليبرالي، والأمة العربية، بدورها، كانت منتشية بقومية شعار وحدة وحرية واشتراكية.
فرحنا ببطل شاب وسيم في البداية، ثم ليتوج، بعدها، هذا الفرح بإعلان إسلامه. هذا انتصار ليس لمحمد علي فقط، وإنما انتصار للعرب والمسلمين، بعد تاريخ زاخر بالهزائم والانتكاسات الحضارية، به يقدم لنا ذلك الشاب الأميركي هدية اسمه الجديد كمحمد علي، بما يحمل من رمزية عربية إسلامية، وليعوضنا نفسياً عن الكثير مما فقدناه كهويات تاريخية.
لم يكن من المهم، أيام سذاجة وطيش ذلك العمر، أن نعرف لماذا أسلم كاسيوس كلي، وما إذا كان إسلامه هو رد فعل غاضباً على عنصرية الرجل الأبيض أم لا، ولم نكن نعرف أن الإسلام هناك كان يعني خلق هوية ترفض هوية الأغلبية البيضاء ذلك الوقت، مثلما يعني الحجاب اليوم عند الكثير من المسلمين المهاجرين في الغرب، هوية شخصية ليست بالضرورة ترفض الاندماج بالثقافة الغربية، وإنما تريد أن تختلف بخصوصيتها وتراثها القديم. كان يهمنا ويشغل يومنا انتصارات محمد علي، الواحد تلو الآخر، ونحزن بعدها؛ حين يُجرَّد من لقب بطولة العالم لرفضه الخدمة العسكرية بفيتنام. كان متسقاً مع قناعاته الشخصية، فلماذا يحارب كي يقتل بشراً لم يعادوه ولم يعلنوا الحرب على وطنه؟! وليعود، بعد ذلك بسنوات، ليكسب بطولة العالم للمرة الثانية والثالثة. كان يرفض الاستسلام ليأس العمر وحكم الزمن، ظل يقاتل حتى بعد أن بدأ مرض “باركنسون” يتمدد في جسده، ولتطوى صفحة بطولاته بداية الثمانينيات، ويبقى محمد علي أسطورة حقيقية.
نحزن، ليس فقط لوفاة الأسطورة؛ وإنما نحزن بأسى على رحيل عمر وحقبة زهو وفرح شبابية، ونظل ننتظر إضاءة الإشارة الخضراء، كي نتقدم لذلك المكان الرحب الواسع، ربما في الصليبيخات، ندخله بهدوء، نصمت للأبد، بينما يبقى الأقارب والأصدقاء الواقفون في صفّ طويل يرددون عبارات “عظم الله أجرك، البقية بحياتك”… ويظل الصمت مطلقاً.