أعلنت المملكة يوم الإثنين الماضي رؤيتها الجديدة التي حملت اسم “رؤية المملكة العربية السعودية 2030″، والتي تستند إلى ثلاثة مرتكزات هي العمق العربي والإسلامي، والقدرات الاستثمارية الضخمة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، وقد جاءت صياغة الرؤية مرتبطة بهذه المرتكزات. ما يميز الرؤية الجديدة للمملكة هو أنها تتناول الأبعاد المختلفة للمجتمع العصري المتوازن، بأبعاده الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية وبالطبع الاقتصادية، وهذا هو محور اهتمامي في مقال اليوم.
عندما نتعمق في التفاصيل التي تحتويها «الرؤية» سنجد أن صياغتها استندت إلى أهداف طموحة للغاية، وهذا أمر طبيعي ومرغوب في الوقت ذاته. فمن الناحية العلمية، الرؤية هي الحلم الذي نتصور أن تكون عليه أوضاعنا في المستقبل، وعندما يتعلق الأمر بالمستقبل، فلا ضابط يحدنا نحو التفكير فيما يمكن أن نستهدفه. لكن ما لفت انتباهي أن «الرؤية» احتوت على تفكير استراتيجي عميق، ورؤى ثاقبة للكثير من جوانب المستقبل للمملكة.
فالواقع يشير إلى أنه بعد عقود طويلة من تأسيس المملكة، وسلسلة متتالية من خطط التنمية، ظل الهيكل الاقتصادي كما هو، وأصبح من الواضح أن انفكاك المملكة من القيد النفطي يشكل تحديا أساسا يجب أن توجه له كل الطاقات، حتى تتحول إلى اقتصاد متنوع يعتمد أساسا على قوى الدفع الداخلية، ويتكامل بشكل وثيق مع العالم الخارجي من خلال دور جديد، لا يستند إلى النفط، وإنما يضم إضافة إلى ذلك طاقات القطاعات الأخرى ذات القوة الكامنة في الاقتصاد السعودي، لذلك أتت الوثيقة لتكون بمثابة تصحيح للمسار الاقتصادي في السعودية.
من مجموعة المستهدفات الطموحة التي لفتت نظري أن المملكة تستهدف الانتقال من المركز 25 في مؤشر التنافسيّة العالمي إلى أحد المراكز العشرة الأولى، وهو ما يفترض أن يضع المملكة بين صفوف أكثر اقتصادات العالم تنافسية وديناميكية، حيث تحتل هذه المراكز حاليا اقتصادات مثل سويسرا وسنغافورة والولايات المتحدة وألمانيا وهولندا واليابان وهونج كونج وفنلندا والسويد والمملكة المتحدة. ولا شك أن وضع الاقتصاد السعودي بين هذه الاقتصادات على مؤشر التنافسية العالمية هو تحد هائل، وسيتطلب تغيرات عميقة على جميع الأصعدة بدءا من طبيعة المؤسسات، وجودة البنى التحتية، والتشريعات والقوانين والبيروقراطية الحكومية، وجودة الخدمات التعليمية والصحية، وكفاءة الأسواق، وطبيعة الاستعداد التكنولوجي والقدرة الابتكارية للاقتصاد الوطني. كل هذه المكونات تتطلب خططا طموحة لرفع مستويات الأداء على النحو الذي يمكن المملكة من أن تصعد نحو المراكز الأولى على مؤشر التنافسية العالمية.
من الأهداف الطموحة أيضا الارتقاء بمؤشر رأس المال الاجتماعي من المرتبة 26 عالميا إلى المرتبة العاشرة بحلول 2030، وهو هدف لا أراه سهلا، ولكن أعتقد أنه إذا ما تحقق، سوف يساعد على تحقيق المستهدفات الأخرى للرؤية بسهولة وسلاسة، فتنافسية الاقتصاد في عالم اليوم تعتمد أساسا على جودة رأس المال الاجتماعي فيه وما يقدمه من تسهيلات لقطاع الأعمال المنتج ومؤسسات المجتمع الأخرى. هذا الانتقال سوف يتطلب استثمارات ضخمة في ترقية البنى التحتية، ولا شك أن الاتساع الجغرافي للمملكة يرفع من تكلفة هذه العملية، ولكنه في المقابل يعزز من الآثار الإيجابية لتنمية رأس المال الاجتماعي.
تستهدف المملكة أيضا رفع نسبة الصادرات غير النفطية من 16 في المائة حاليا إلى 50 في المائة على الأقل من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي بحلول 2030، ولا شك أن هذا الهدف يتطلب ليس فقط تنمية القطاع غير النفطي في المملكة بمعدلات نمو مرتفعة مصحوبا بقوة إنتاجية ضاربة، وإنما أيضا الانتشار الخارجي لمخرجات هذا القطاع بحيث تتضاعف صادرات المملكة غير النفطية بأكثر من ثلاثة أضعاف مستوياتها في الوقت الحالي، وهو في رأيي تحد كبير يستلزم التخطيط له بدقة وعناية في إطار خطة استثمارات ضخمة في هذا القطاع تساعد على ارتفاع نصيب هذا القطاع في الناتج، وبالصورة التي تكفل رفع تنافسيته في الأسواق العالمية، وهو ما يعني ضمنا أن المطلوب ليس فقط ارتفاع حجم الناتج غير النفطي، وإنما أيضا بتوليفة السلع والخدمات التي تلقى قبولا في الأسواق العالمية.
لتحقيق هذه المستهدفات تتطلع السعودية إلى الوصول بمساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من 40 في المائة حاليا إلى 65 في المائة في 2030، وهو ما يعني تضاؤل الدور الذي تلعبه الحكومة والقطاع العام في النشاط الاقتصادي، وأن يضطلع القطاع الخاص بدور المنتج الرئيس والمستثمر الأساسي في الاقتصاد الوطني، وهو هدف حيوي ينبغي أن تهيئ له المملكة المتطلبات اللازمة كافة، نظرا لارتفاع العوائد التي يمكن أن تجنيها المملكة من اتساع مساهمة القطاع الخاص في تخفيف الضغوط على الحكومة في إيجاد الوظائف، وخفض مستويات الإنفاق العام، والمساعدة في تحقيق التوازن المالي الذي تستهدفه الرؤية.
جانب كبير من التوسع في مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي، وفقا للرؤية، يأتي من ارتفاع مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في إجمالي الناتج المحلي من 20 في المائة حاليا، إلى 35 في المائة بحلول 2030، أي بنسبة 60 في المائة من النمو المستهدف في مساهمة القطاع الخاص. لا شك أن انتشار المشاريع الصغيرة والمتوسطة سيسهم في فتح عدد هائل من الوظائف للمواطنين في القطاع الخاص بعيدا عن القطاعين الحكومي والعام، لكن أحد أهم العوائق التي تواجه النمو في هذا القطاع هي التمويل، لذلك أعتقد أنه على الرغم من أن أحد الأهداف الجديدة لصندوق الاستثمارات العامة هو المساعدة في إنشاء الشركات الوطنية الكبرى، فإن القوة الاستثمارية للصندوق ينبغي أن تعظم أعداد المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال تسهيل التمويل اللازم لها.
وأخيرا، فإن «الرؤية» تستهدف زيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 مليار ريال حاليا إلى تريليون ريال بحلول 2030، وهو نمو يتجاوز ستة أضعاف مستوياتها في الوقت الحالي، وهو تحد كبير خصوصا في ظل التزام الدولة، وفقا لما جاء في «الرؤية» “لن نفرض على المواطن أي ضريبة على الدخل أو الثروة أو السلع الأساسية”، لذلك أرى أن التحدي الحقيقي يكمن في طبيعة القواعد التي ستتمكن الحكومة من خلالها من تدبير هذا القدر من الإيرادات بعيدا عن المصدر الرئيس للإيرادات.
باختصار فإن مستهدفات «الرؤية» من الناحية الاقتصادية تفرض تحديات ضخمة ينبغي أن تستعد لها المملكة، حتى تتحقق الرؤية الجديدة وتصبح واقعا تعيشه المملكة في 2030.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟