من يعرف “فراش البلدية”، سيعرف بسهولة من هو “الجبنة الكبيرة”.
حكاية التمويه، واستغلال النفوذ للإثراء غير المشروع، واختلاس الأموال، يبدو أنها صارت ثقافة سائدة مع الحقبة النفطية. حكاية فراش البلدية تم ردمها، ووضعها في مطمر منذ فضيحة تزوير وثائق الأراضي منتصف الستينيات. في إطار بحثي لرسالة الدكتوراه جمعت الكثير من الوثائق النادرة حول التلاعب بالتثمين والأراضي. وخلال مقابلاتي الميدانية حكى لي جزءاً منها رجل فاضل هو أحمد البشر الرومي، رحمه الله، وجزء آخر حكاه لي رجل فاضل آخر هو محمد العدساني، شفاه الله، ومعاناته حين كان رئيساً للمجلس البلدي من ١٩٦٤ إلى ١٩٦٦، إلى أن تم حل المجلس في مايو ١٩٦٦، ليبدأ هبش ميزانية التثمين دون حسيب أو رقيب. إلا أن القضية أعاد نبشها مرة أخرى بسؤال نائب فاضل هو أحمد النفيسي في مجلس ١٩٧١. كان رد الحكومة الرسمي بأنها لم تقدم أياً من المسؤولين للمحاكمة، ولم تكلف نفسها حتى عناء التحقيق، حفاظاً على السمعة، ثم ألقت اللوم على “فراش البلدية”، الذي تم إبعاده عن البلاد، وحافظت البلاد على عفافها من درن الفساد، وانتهت حكاية تزوير وثائق الأراضي. فراش البلدية كان كبش فداء لحالة متأصلة، يتم رمي الضحية في البحر ليغرق، ويخرج الفاسدون بثيابهم البيضاء بلا اتساخ، فلا لغو ولا تأثيم. وبالتالي لم يكن مستغرباً، بعد ثلاثة عقود، أن تظل أكبر فضيحة تمس أموال الناس في مؤسسة التأمينات الاجتماعية لهذه المدة الطويلة من الزمن، شاركت فيها حكومات، ووزراء متعاقبون، ونواب موالون ونواب معارضون، كلهم صمتوا وسهلوا ذلك الاستلاب، بل إن الطامة الكبرى كانت أن الكشف عن الجريمة، أتى عن طريق فرد، لوحده، وبجهد ذاتي، شخص فاضل آخر اسمه فهد الراشد. عندما شرح لي صديقنا د. فهد التفاصيل، وأسماء من تعاقبوا على إدارة التأمينات وتواطؤ وزراء وحكومات ونواب من اتجاهات مختلفة، تذكرت “فراش البلدية”.
فإن كانت الحال كذلك، وهي كذلك للأسف، فهل نستغرب ظهور جبنة كبيرة في “إيميلات موناكو”، قبضت مليونين ونصف من الدولارات فقط لتسهيل الحصول على عقود نفطية؟ ولا أظن أن الشخصيات المهمة عندنا تقبل بهذا المبلغ التافه، فلعله كان فراش بلدية آخر.
أما الجبنة الكبيرة فهي معروضة على قارعة الطريق، بعمارات شاهقة، ومجمعات مخالفة، وأراض تخصص لغير مستحقيها. تقول شواهد الفساد تلك إننا باقون ونتمدد كشعار “داعش”، ويبدو أنهما وجهان لعملة واحدة.
من أسفٍ أن الأجبان الكبيرة زادت وتنوعت و”زغددت”، وصارت معروفة شكلاً وما عادت مجهولة العنوان، بل ما عاد هناك وجود لشخصية أسطورية كفراش البلدية، الذي سنروي حكايته لاحقاً للتاريخ فقط. لكي يتحرك البلد لابد من استعادة الثقة المجروحة، أو المثلومة. فكانت الأسماء التي ذكرناها فقط كنماذج على أنه مازال هناك أمل، وهناك غيرهم كثيرون، كل يقوم بدوره لاستعادة ثقة مفقودة كانت قد غادرتنا بإبعاد فراش البلدية، وعززتها النسخة الحديثة منه “الجبنة الكبيرة”.