الإضراب الذي قاده اتحاد عمال البترول وصناعة البتروكيماويات في الكويت، والذي شارك به ألوف العمال والموظفين، أوقف شريان البلاد الاقتصادي(صناعة النفط) لثلاثة أيام، وأدى لهبوط سريع في إنتاج النفط من 3 ملايين برميل لما يقارب المليون. لقد وصلت الروح النقابية للكويت وربما لمنطقة الخليج من بوابة جديدة مختلفة عن البوابات السابقة التي عرفتها إضرابات الخمسينيات والستينيات ذات البعد القومي. فهذه المرة تجاوز الإضراب البعد السياسي كما والطائفي والقبلي، ومثل تحديا كبيرا لبيئة التقشف والخصخصة المطروحة من قبل الحكومة في أعقاب انهيار أسعار النفط.
لقد أكد الإضراب بأن سياسة الحكومة حول الاقتصاد والإصلاح الاقتصادي والخطط لا يمكن فرضها من الأعلى، وأنها تتطلب حوارا مجتمعيا فعالا وإجراءات ثقة وبيئة قانونية وبرلمانية وانفتاحا سياسيا جديدا بين قوى المجتمع والدولة قبل البدء بالإصلاح الاقتصادي.
حرك الإضراب قناعة بين العمال والموظفين بأنهم سيخسرون امتيازات وبدلات سبق للدولة أن أقرتها في السنوات الماضية، وأنها في اتجاهها الراهن للتقشف ستمحو ما قامت به من زيادة في الامتيازات والمخصصات. يبقى ان ننتبه بأن 90% من العاملين من المواطنين يعملون في القطاع الحكومي. لهذا في جانب منه مثل الإضراب حالة ممتدة من التراكمات المعبرة عن أخطاء الماضي الاقتصادية.
إن قناعة المضربين أو قطاع منهم بأن الإصلاح الاقتصادي سيكون على حسابهم يعكس موقفا مجتمعيا من الخصخصة التي أصبحت مطروحة على الأجندة العامة، ونجد لهذا الموقف مثيلا في المجتمعات العربية التي سعت للإصلاح الاقتصادي عبر نقل ملكية القطاع العام إلى القطاع الخاص، لكن هذا النقل لم يكن إلا نقلا للملكية من الدولة لدوائر النفوذ الاقتصادية والسياسية نفسها. إن انتشار القناعة بين قطاع عريض من المجتمع أنه سيكون الخاسر الأول إن تبنت الدولة نموذج «الليبرالية الجديدة» حرك جانبا من إضراب النفط وربما يحرك إضرابات مختلفة في قطاعات مختلفة في المرحلة القادمة. في العامين السابقين وقع أكثر من إضراب في الكويت أحدهما في المطار وآخر في التأمينات الأجتماعية (المعنية بالمتقاعدين)، فهذا على مايبدو جزء من المشهد القادم إلا ان سعت الدولة لتفعيل آليات الحوار ووجدت حلولا من نمط مختلف.
مأزق «الليبرالية الجديدة» في العالم العربي يلخص كالتالي: فالاصلاحات الاقتصادية تقع في ظل بيئة قانونية غير متطورة وحالة لا تتميز بالشفافية ومواجهة الفساد والمساءلة والديمقراطية والتمثيل. وهذا بطبيعة الحال يثير ردود فعل مرتبطة بمحاولة حل أزمة الدول العربية على حساب متوسطي الدخل والبسطاء من الناس ولصالح كبار الملاك حيث ستعود فوائد الخصخصة وأسعارها وشروطها إليهم.
من حسن حظ الكويت دولة وكيانا أنها تملك مجتمعا هو الأكثر انفتاحا في الاقليم الخليجي، وذلك بسبب تمرسه التاريخي في العمل السياسي والنقدي، فالمجتمع الكويتي اعتاد على الحرية ونقد السلطات والحوار بين سلطة ومجتمع. في الكويت وقعت حالة من حالات الجزر في قضية الحريات. لكن حتى اللحظة مازال للحريات في الكويت مكان وأنصار. لهذا عندما وقع الاضراب وشل البلاد، لم تتدخل قوات الأمن، ولم تقع حوادث أمنية، واستمر شكل من أشكال الحوار بين الدولة والمضربين، وبالنهاية وصلت الرسالة للسلطة السياسية ووعدت الدولة بصورة أو بأخرى بتحقيق نتائج.
في إضراب الكويت يجب أن نسأل: هل ستكتشف الحكومة طريقا ثالثا بين الخصخصة المفتوحة غير المساءلة وبين الحكومة كرب عمل مطلق؟ هل ستخلق الدولة هيئات وطنية كبرى تكون مدخلا للحفاظ على العمالة الوطنية وحقوقها في ظل السعي لأن تخفض الكويت اعتمادها على سلعة واحدة كمصدر للدخل الوطني؟ كيف ستتعامل الحكومة مع امتيازات الموظفين والعمال في زمن التقشف بما يضمن العدالة والقيم والاقتصاد؟ إن مضمون الخصخصة والعدالة في الكويت سيتحدد من خلال تطوير الحقوق والحريات والشفافية والمساءلة والتجربة الديمقراطية. حتى اللحظة سادت الحكمة، كل الأمل أن تسود في خطط المستقبل.