يقال إن سد مأرب التاريخي قد انهار بسبب الفئران التي ظلت بصبر دؤوب تقرض قواعده حتى انتهى إلى ركام، وخرجت المجاميع البشرية، لتحرك الحضارات. كنا معاً والصديق ناجي العلي، رحمه الله، نستحضر هذه الرواية عن انهيار ذلك السد العظيم، الذي فتح انهياره الباب على مصراعيه للشعوب والقبائل لأن تسعى في الأرض، وتؤسس لما هو قادم.
كان ناجي يقول “الشغلة بدها صبر”، وخلينا نصبر كما صبرت فئران سد مأرب، ومن ثم تحقق لها ما تريد. بالطبع لا أعلم مدى دقة رواية الفئران والسد فلم أبحث فيها، لكنها قد تطرح أهمية الصبر، لأولئك الذين يطمحون للتغيير السلمي. أما ناجي فقد كانت رسوماته أحدثت فعلها، آثار فئران السد، فكانت تقرض أساسات السدود السياسية، فلم تتحملها الزعامات، فاغتالوه غدراً في صيف قاتم في لندن.
في ٢٥ أبريل ٢٠١٥، أي قبل سنة من الآن، تحركنا، أفراداً من الخليج، بصورة ذاتية شخصية، على طريقة فئران سد مأرب، من أجل السعي لإيقاف الحرب في اليمن. أجرينا اتصالات مع أطراف عديدة، على أساس تشكيل مبادرة شعبية خليجية، لرأب الصدع، إن شئت. أبلغت نائب وزير الخارجية الكويتي خالد الجارالله، الذي أثنى على المبادرة، وتمنيت عليه أن تعقد المفاوضات في الكويت. والتقينا بعدها بوزير الدولة للشؤون الخارجية في عمان يوسف العلوي، الذي كان كريماً في وقته، ورؤيته. وكانت الخلاصة، أن الوقت لم يكن قد حان بعد لأي شكل من أشكال التفاوض، فأطراف النزاع، كانوا يطمحون لتحقيق مكاسب على الأرض، ثم التفاوض من منطق قوة. حتى هذه اللحظة لم يحدث ذلك، وها هي الأطراف المعنية، بصرف النظر عن المسميات، تلتقي في الكويت، والتي يعتبر قبول الأطراف التباحث فيها، بحد ذاته مكسباً لها.
التفاوض الذي بدأ بعد مخاض عسير، وليس له إلا ذلك. هو من أصعب أشكال التفاوض، حيث تدور معارك طاحنة، دون نتائج محسومة. كما أنه من غير الوارد أن يدخل طرفا تفاوض، بدون تنازلات. كذلك فإن تفاوضاً على شاكلة مباراة كرة قدم، لا يمكن أن يحقق نتائج سريعة أو مفيدة، فمن غير المجدي لتفاوض صعب من هذا النوع أن يتحرك، ولابد أن تنقل كل عطسة للإعلام.
أهم نقطة خلاف هنا هي تسليم السلاح الثقيل، والانسحاب من المدن، أو تشكيل حكومة توافقية تدير البلاد وتستلم السلاح، إن تم التوافق حولها، فهنا يحدث تقدم حقيقي، وهناك بالطبع إمكانيات، للخيال الواقعي ليلعب دوره.
بالطبع الثقة مفقودة حتى النخاع، يساهم في اشتعالها، أجهزة إعلام طاحنة، قاسية. ولذا إن كان للموضوع بداية، فليبدأ بالملف الأسهل، والأكثر تأثيراً في بناء الثقة، وهو ملف الأسرى، والمحتجزين، والمفقودين.
من واقع تجربة طويلة في هذا المجال، فإن إعادة الأسرى إلى ذويهم، سيكون مدخلاً يفتح آفاقاً أوسع من الحلبة السياسية.
مأساة اليمن ليس في من سيفوز، وليس في من سيحكمه، أو حكمه سابقاً أو لاحقاً. مأساة اليمن تتلخص في الفقر الطاحن، الذي إن لم تتم معالجته بجدية، فهناك حرب أخرى قادمة. نسأل الله الأمن والأمان والرخاء لليمن وأهله.