الحرب وحش كبير يدمر الحياة بأسرع مما نعتقد. وقد تطور فعل الحرب في القرن العشرين ثم في قرننا هذا. مبادئ كثيرة كتبها مفكرو الحرب عن الحرب العادلة والمبررة والأخرى غير العادلة، لكن مع الوقت تصبح الحرب بقدرتها التدميرية مشكلة للإنسان في كل مكان. الحرب العالمية الأولى التي فتكت بأكثر من ١٦ مليون قتيل كان يمكن تفاديها، وهناك من الكتب والأبحاث ما يؤكد أن الحروب تبدأ بدرجة من درجات تقدير الموقف الذي يميل الى الاستخفاف بالقرار بصفته عملية عسكرية لن تدوم طويلاً. لو علم هتلر وقادة اليابان بالنتيجة التي سيصلون إليها، فهل كانوا دخلوا الحرب التي أدت الى دمار كل من ألمانيا واليابان ومقتل اكثر من ٦٠ مليون إنسان؟ ولو عرف الأسد بأن شنّه الحرب على شعبه سيؤدي به الى ما هو فيه الآن، فهل كان بدأ القتال ضد ثورة سلمية؟ كل من دخل الحرب حرّكه الإيمان بانتصار سريع قلما يتحقق. وما أن تبدأ الحرب إلا وتلتهم ما يحيط بها. الحرب لا تدمر العدو فقط، فهي عملية مسلحة تحرق صانعيها وتغير حياتهم وتؤدي في معظم الأوقات الى مشكلات أعمق. في معظم الحالات، تفتح الحرب الطريق الى حروب أخرى.
كل من شن الحرب أعلن أنه يخوضها من أجل السلم بل والقضاء على الإرهاب. هكذا كانت حرب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق في ٢٠٠١ و٢٠٠٣، وقبلها حرب فيتنام ولاوس وكمبوديا في ستينات وسبعينات القرن العشرين. لقد أدت معظم الحروب الى نتائج مناقضة للإعلانات الأولى. حرب السوفيات في أفغانستان منذ ١٩٧٩ تذكرنا بمساهمتها في إنهاء الاتحاد السوفياتي. السلسلة كبيرة. قلة قليلة من الحروب أدت الى نتائج مقبولة، ومع ذلك يمكن القول إن الحرب الباردة كانت أفضل بكثير في برودتها من سخونة الحروب، وإنها (الحرب الباردة) من خلال صراع الأفكار والمبادئ والنماذج والقوة الناعمة كالسينما والأدب والثقافة وطرق الحياة حققت أكثر بكثير مما حققته حروب الطائرة والدبابة الطويلة والمدمرة.
حروب الشرق، من بين حروب العالم، هي الأكثر فتكاً، وذلك لأنها قلما تخرج عن دراسات مستفيضة وقلما تقع بعد معرفة دقيقة ومراقبة طويلة للبيئة التي تؤثر فيها. وهذا يعود بالدرجة الأولى الى ضعف الشفافية العربية وقلة الرقابة وغياب الحوار في صنع قرار الحرب. وهذا يجعل حروب الشرق الأصعب على من يبادر بها والأقسى على من يتلقاها. لنأخذ مثلاً حرب العراق على إيران في العام ١٩٨٠، فتلك الحرب بدأت باستخفاف بالقدرات الايرانية وبتعظيم كبير للقدرات العراقية، وأصبحت مع الوقت حرب البوابة الشرقية، كما وصفها نظام صدام، ذات طبيعة مقدسة للنظام العربي. لهذا، قام النظام العربي كعادته بمنع توجيه أي نقد لتلك الحرب، إذ اعتبر النقد تقليلاً من شأن دولة صديقة (عراق صدام) تخوض الحرب نيابة عن كل العرب. وهنا بالتحديد كان مقتل النظام العربي الذي يستسهل مصادرة حرية التعبير عند كل منعطف. لهذا سار العرب وراء تلك الحرب بصورة عمياء نحو كوارث أكبر من الحرب مع إيران.
وعندما تسكت الأصوات الناقدة للحرب، فمن الطبيعي أن يزداد تعظيم قيمتها وإخفاء تناقضاتها، ومن الطبيعي أكثر أن يشعر صانعها بقوة عادة ما تكون وهمية. كل شيء أدى في حرب العراق وايران الى تجفيف منابع قوة العراق وخلق عداء أعمق مع ايران. في تلك الحرب أفلس العراق واستمر هبوطه في فخ لم يعرف كيف يخرج منه. كانت بعض الأطراف في بلادنا العربية وفي مواقع مسؤولة سعيدة بالحرب العراقية الايرانية. أذكر في حوارات خاصة تلك النبرة القاصرة التي تحدث بها البعض في منطقتنا: «ليتقاتلوا حتى النهاية، لأننا سنكسب من إضعاف الدولتين».
ولينتبه القارئ الى حجم المشكلة، يمكن القول إن الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت لمدة ٨ سنوات (١٩٨٠-١٩٨٨)، هي التي أدت الى إفلاس العراق بالكامل وعسكرته غير المسبوقة مما أدى به، وبسبب قصر نظر قيادته، الى احتلال الكويت، وبطبيعة الحال أدى غزوه الكويت الى ورطة لم يحسب لها حساباً، ونتجت منها حرب تحرير الكويت في العام ١٩٩١، وهذا دفع بالأمور الى العقوبات الدولية التي لم تنتهِ إلا بالغزو الاميركي عام ٢٠٠٣. وقد نتجت من ذلك الغزو سلسلة من التداعيات انتهت بنشوء «داعش» والحروب الطائفية وتمدد ايران الكبير في العراق.
في حالات قليلة، تنجح الحرب نجاحاً واضحاً كما حصل عندما تضامنت عدة دول في حرب محدودة الهدف ركزت على تحرير الكويت عام ١٩٩١ أو حرب كوسوفو في ما بعد. لكن في معظم الحالات تؤدي الحروب الى بروز مقاتلين جدد، وتفتح الباب لحروب جديدة. ولو نظرنا الى الحرب بين إسرائيل والعرب (والتي تعكس حالة الظلم التي تعرض لها العرب منذ قيام إسرائيل) سنجد أن كل حرب أدت الى حرب أكثر فتكاً، وما زال الصراع مفتوحاً. الحرب تنتج نقيضها، فتصيب الأصدقاء كما الأعداء، تغير النفوس كما تثير الغرائز بكل حيوانيتها. الحرب تغير الناس الى الأسوأ في الداخل والخارج. وبالفعل في حالة فلسطين والصهيونية قد تكون الحرب خياراً وحيداً، لكن هل الأمر هكذا فعلاً؟ وهل هناك خيارات أخرى للمقاومة بثمن أقل وبحفظ للحياة أكبر، وهل المقاومة المدنية والقوة الناعمة في الثقافة والأدب والتضامن والمقاطعة لديها فرص في الصراع؟
في بلادنا العربية عدة حروب: حرب أهلية في سورية ومن ضمنها صراع كبير بين النظام (بدأه النظام) ومعارضيه، وحرب أهلية في ليبيا وصراع بين أجنحة النظام القديم والجديد، وحرب في العراق وصراع تيارات وطوائف كبرى وأساسية، وحرب اليمن ببعدها الداخلي والخارجي والإقليمي. في كل الحروب الراهنة يدفع الناس أثماناً مضاعفة كما الدول المشاركة، وتخلق الأرضية لحروب المستقبل وللدول الفاشلة التي تعود وتُضعف ما يحيط بها.
حرب إيران و «حزب الله» في سورية هي الأخرى من الفصيل ذاته من الحروب المدمرة، فإيران انحازت الى نظام الأسد، وتمر بالوقت نفسه بحالة استنزاف مالي وعسكري بثمن مضاعف. لقد خسر «حزب الله» كثيراً على مدى السنوات نتيجة هذا الوضع، وحتماً سورية، حيث الثقب الأسود الأكبر في منطقتنا، الذي له أكبر الأثر على مستقبل عدة أطراف كـ «حزب الله» وايران ونظام الأسد ومعارضيه والجهادية الإسلامية وأطراف أخرى عربية ودولية.
لا يزال الاعتقاد ثابتاً بمنطق القوة لإرغام الطرف الآخر على تغيير سلوكه. هذا البعد مسببب رئيسي للحروب، لكنه السبب الأساسي لفشلها. إن قدرة الحرب على تصفية الطرف الآخر لم تعد ممكنة كالسابق، فبسبب التغيرات في القوة والإمكانيات التي تتمتع بها أصغر المجموعات المسلحة المعارضة للدول أصبح الأمر أكثر صعوبة. من كان يتخيل أن «داعش» بكل قدراته القتالية كميليشيا يستطيع أن يقف أمام أكبر تحالف عسكري عالمي؟ من تخيل أن حركة «حماس» رغم حصار غزة تقف أمام إسرائيل في عدة مواجهات وحروب؟ ومن تخيل أن قوى ضعيفة بإمكانها أن تقف أمام قوى أكبر منها بمئات المرات كما فعلت «طالبان» في أفغانستان؟
كثيراً ما نتجت من الحرب أطراف أكثر فتكاً، فإضعاف طرف من الأطراف لا يضمن عدم بروز من هو أصعب وأشد قوة، فإضعاف منظمة التحرير وحركة «فتح» في لبنان وفلسطين أنتج حركة «حماس» الإسلامية عام ١٩٨٨، وإضعاف المنظمات الفلسطينية والوطنية اللبنانية في جنوب لبنان في حرب ١٩٨٢ أنتج «حزب الله»، وإضعاف «القاعدة» أنتج «داعش» وتنظيم «القاعدة» في اليمن ومناطق أخرى. هذا يعني محدودية خيار الحرب، وأنها لا تؤدي الى النتائج المرجوة. هناك ضرورة للتعامل مع المنشأ السياسي للغضب والفوضى.
لقد تغيرت الحرب في القرن الواحد والعشرين ولم تعد الدول تسيطر على أدوات الحرب كلها كما كانت في السابق، ولم تعد الميليشيات لقمة سهلة أمام مدافع وآليات الدول. أصبحت أصغر قوة قادرة على الصمود بسبب التكنولوجيا وشكل الحرب الجديدة. كل شيء تغير، والحرب لم تعد في معظم الحالات تجلب سوى كوارث وويلات لصناعها ولمن تستهدفهم. يبقى السؤال: هل من وسائل أخرى للصراع بين الناس؟ أين مكانة النماذج والقيم والحقوق والفكر والحريات ومبادئ العدالة والمقاطعة والأدب واللغة ووسائل الضغط الأخرى؟ ربما يجب أن نتعلم شيئاً من بعض جوانب الحرب الباردة ومن فلسفة التغيير بأقل عنف ممكن. التناقض بين الحرب من جهة وبين السعي والنضال السلمي من جهة أخرى سيبقى مفتوحاً في ظل مشاهد تزداد تعقيداً.