لِمَ كل هذا التخوّف من العلمانية، وكل هذا الكره لها، وهي التي حفظت كيانات دول كبرى من الانهيار، وساهمت في تقدم غيرها، وأعطت وستعطي البشرية جمعاء، أفضل وسيلة عيش مشتركة وآمنة، والتي تعمل بتلقائية ضد التعصب الديني والحروب الطائفية؟ الجواب في أن المستفيدين من التناحر الطائفي والاختلافات الدينية سيكونون أول الخاسرين.
ليس هناك امر أكثر سخفا، وأعمق ضررا من موضوع الاختلاف المذهبي، ولو أن عدد المستفيدين من وجود هذا الاختلاف لا يقل كثيرا عن عدد المتضررين منه.
الخلاف المذهبي سيبقى، طالما بقي الجهل بيننا، وببقاء الجهل تبقى امور أخرى كما هي، ولكن ليس بقسوة وعنف وعمق الخلاف المذهبي.
ما لا يود الكثيرون معرفته، وأيضا جهلا أو مصلحة، أن الخلاف السني ـــ الشيعي لا ولن يُحَلّ لا بالحرب ولا حتى بالحوار، كما يتوهم البعض. فسيبقى الشيعة شيعة، وسيبقى السنة سنة. نقول ذلك على الرغم من محاولات البعض التقارب مع الآخر، بغية كسبه لصفه، أو لكي يأمن شره. فهذا الخلاف الذي بدا يوم البيعة في «سقيفة بني ساعدة»، وتجذر بتأسيس الدولة الصفوية عام 1501، وتعمق بالثورة الإيرانية، وتثبيت مبدأ ولاية الفقيه، لا يمكن ان يحل موضوعه، مع كل عمقه التاريخي في وجدان أتباعه بلقاءات قيادات الطرفين الدينية، بين الحين والآخر، في تجمع أو حوار أو صلاة مشتركة، طالما أن لرجال الدين بالذات، ومن الطرفين، مصلحة كبيرة في بقاء الاختلاف، وبالتالي إبقاء الصراع مشتعلا، فرزقهم وخبزهم، وهيبتهم، تعتمد على استمرار هذا الاختلاف.
وبالتالي لا حل لهذا المأزق التاريخي العميق غير اللجوء الى الوطن والعلم والثقافة. فمن دون اعتبار الوطن، وليس المذهب، الحصن الحصين للمواطن، فلا سلام بين مكوناته. ومن دون أن يرضع المواطن، منذ صغره، فضيلة المحبة واحترام الآخر، وخلق التسامح وجمال التعايش مع الآخر في نفسه فلا سلام بين مكونات المجتمع. فأوروبا اليوم، المتسامحة والمتصالحة مع نفسها، كانت يوما اشد تطرفا، دينيا ومذهبيا، منا. ولم تصل الى ما هي عليه الآن من سلام مجتمعي إلا بنشر العلم وإشاعة الثقافة. فلا حل امامنا، كما يقول المفكر العراقي «المعمم» اياد جمال الدين لوقف الحروب الطائفية والنزاعات الدينية، غير اللجوء الى العلمانية، فالدول مثل النوادي والجمعيات ومختلف مؤسسات المجتمع المدني، يجب الا يكون لها دين، بل هي للجميع. وبغياب دساتير علمانية، تقف فيها الدولة، بكل قوانينها وسلطتها، على مسافة واحدة من كل فرد في المجتمع بصرف النظر عن لونه ومذهبه وأصله وفصله، فلا سلام ولا إخاء. فالتفرقة في الحقوق والفرص هي أساس الاختلاف، وبداية التلاعب في الواجبات والمسؤوليات.
فمن يعادون الليبرالية، ويحاربون العلمانية، هم إما فئة غير عالمة، ولن نقول جاهلة، بحقيقة ما تعنيه العلمانية، وإما أن لهم مصلحة مباشرة في بقاء الصراع الديني والمذهبي مستمراً.