إن سألتني: من هو المجنون؟ سأحيبك فوراً بلا تأتأة: هو ذلك الصحفي الألماني الذي تلقى دعوة من داعش لزيارة منطقة الرقة، فقبلَ الزيارة سعيداً، بل وفوق ذلك اصطحب ابنه معه.
وإن كان هذا الصحفي قد سئم من الحياة بعد أن بلغ الخامسة والسبعين من عمره (لاحظ أنه لم يصل إلى الثمانين عاماً، التي حددها الشاعر الخالد زهير ابن أبي سلمى عندما قال: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ)، فما ذنب ابنه الذي يعيش في أجمل مراحل العمر، 32 عاماً، هل سئم هو الآخر، أم رافق والده خوفاً عليه، أم أجبره والده؟ كل الأجوبة أنكى من بعضها وأشد.
تخيل أن تأتي من ألمانيا، حيث تختار الموسيقى التي تناسبك، في المطعم أو المرقص الذي يناسبك، وتقول ما يناسبك، وترتدي ما يناسبك، وحيث قيمة الإنسان لا يعادلها شيء، وحيث القانون والعدالة والحياة المنظمة الحديثة، وحيث، اختصاراً، ألمانيا، التي تعد من أفضل البقع على هذا الكوكب صلاحية للحياة، إن لم تكن هي الأفضل.. أقول تخيل أن تأتي من ألمانيا إلى الرقة السورية، حيث تسيطر داعش، وهذا الاسم وحده يكفي، من دون الحاجة لذكر تفاصيل الحياة، والقتل لأتفه الأسباب، والفوضى العارمة، والسواد الذي يكتسي كل شيء، وحيث الموسيقى محرمة، والرأي الحر محرم، وحيث الكلام الذي قد يدفعهم لقطع رقبتك، أو حرقك حيا، أو جلدك في السوق أمام العامة، إن كنت محظوظاً.
شايبنا الألماني، حفظه الله، اصطحب ابنه إلى ربوع داعش، بعد أن وضع في جيبه العلوي ورقة فيها «كفالة حياة» بتوقيع أمير داعش الأكبر، البغدادي، تمنع التعرض لهما، وتأمر بتسهيل مهمتهما، وحسن استضافتهما. ومع هذا أتساءل: ألم يشك هذا الألماني، لو للحظة، في أن الدواعش قد يغيرون رأيهم، ويأخذونهما رهينتين، يفاوضون بهما بلدان أوروبا وأميركا التي تجوب طائراتها سماء الرقة؟ وبالطبع، في حال فشلت المفاوضات، وهو المتوقع، لن يفكر الدواعش كثيراً في اختيار طريقة القتل، هل بالسيف أم بالنار أم بالمطرقة أم بالأسيد، وقد يجرون قرعة لاختيار طريقة قتل هذا الشيبة المتهور وابنه البار.
عاد الشيبة الألماني وابنه من الرقة، ونشر كتاباً تزاحم الناس لشرائه في ألمانيا، وتتم الآن ترجمته للإنجليزية وبقية اللغات.. وقد ذكر في هذا الكتاب مقدار الجزية التي يدفعها المسيحيون المقيمون في الرقة (630 دولاراً أميركياً في السنة)، وتحدث عن تفاصيل الحياة هناك، وعن مطاعم الوجبات السريعة المنتشرة، والطرقات الملأى بالسيارات، والحياة العادية جداً، بحسب زعمه.
ذهب وعاد وكتب ونشر، فأثبت أن الصحافة ليست مهنة المتاعب فقط، ولا مهنة المخاطر فحسب، بل فوق هذا وذاك، مهنة الجنون.