يصدمك في فلسطين مشهد الجدار الذي شيده الاحتلال على الأرض الفلسطينية ليفصل بينه وبين الفلسطينيين، لكن بنفس الوقت، ورغم الفوارق بين الجدار الإسرائيلي وجدران العالم، ستصدمك مشاهد الجدران التي تبرز الآن وفي هذا الزمن بين دول كثيرة في العالم العربي، كما والغربي والآسيوي: جدار في جنوب إفريقيا وآخر بين الهند وكشمير، والولايات المتحدة مع المكسيك، وجدار بين مصر وغزة، والسعودية مع اليمن، وامكانية تعميم ذلك على الحدود مع العراق وهكذا. الجدران صناعة جديدة تقع ضمن المجتمعات والمدن كما يقع في بغداد بين طوائف وجماعات، ويتبادر لذهنك عندما ترى جدارا السؤال التالي: هل الجدران علامة قوة وسيادة أم ضعف وتراجع للسيادة؟
وبمجرد ما أسأل نفسي سؤال القوة والضعف أجد بعض الاجابة التي تؤكد بأن الدولة السيادية القوية المنيعة المسيطرة على حدودها بدأت تفقد مناعتها: تنظر للجدار، وتكتشف انه سيمتلئ بالثقوب من قبل الرافضين للفكرة والمتأثرين بسلبياتها على جانبي الحدود، الجدران في الحالات كلها تبدأ بسبب فقدان سيطرة، وبسبب تراجع نفوذ وضعف في التأثير على المحيط، بل يرافق ذلك حالة كراهية وتعصب تجاه الآخر أكان هذا الاخر في الداخل (جماعة قومية أو طبقة أو طائفة أو قبيلة) أم في الخارج وعلى جانبي الحدود بنفس الوقت.
وتبنى الجدران بهدف تأمين منع هجرات وتسلل أفراد وعمال وعائلات ولاجئين، ومرور أسلحة ومخدرات، لكنها تفشل في تحقيق ذلك فشلا ذريعا، وتنتهي بالاستسلام للبيئة التي أنتجت الخوف. فالجدران لا تنهي التداخل بين طرفي الحدود، ولا تقلل من الخوف والعنصرية ولا توقف التهريب وانتشار اللاجئين، ولا تحل أزمة الهوية في ظل التكنولوجيا الجديدة والتطلعات المصاحبة لها، فالذي يسقط اليوم هو الحدود. ونكتشف بأنه في قلب الجدران سياسات تاريخية خاطئة، وقضايا عدالة حول الحدود بين الدول وضمن الدول. وقد يصح القول: الدول لا ترى خارج حدودها إلا الدول، لكنها تصدم في هذا الزمن عندما تكتشف ان الدول لم تعد اللاعب الوحيد، بل عليها التعامل مع الناس العاديين والمجتمعات والسكان والفقراء والباحثين عن مأوى، هذا عالم مختلف لم تعد الدولة جوهر بنيته.
وتكشف لنا الجدران أن الأقوى والأغنى والأكثر رفاهية قرر أن يترك الأضعف والأفقر بل والأقل حظا وحيدا في شتاء بارد. قرارات «الجدرنة» نتاج تشاؤم من المستقبل وإعتقاد بأن الفقر سيزداد والفوارق ضمن المجتمعات وبين الجيران سترتفع والعنصرية ستزداد تأثيرا. وبمجرد ما أن نشيد الجدران مع الخارج، سنبدأ بجدران مع الداخل بين فئات وجماعات ومناطق وأحياء منفصلة. لكن هذه الجدران لا ترتفع بوجه جيوش: بل بوجه شعوب وقبائل وجماعات وأفراد تريد المرور والعبور، ومن هنا استحالة صمود الجدران امام الشعوب وإشكاليات الفقر والجوع. هذه الجدران الجديدة ربما تكون آخر ما تبقى للحماية الأمنية قبل الدخول بتحديات جديدة جوهرها مكانة الدولة الحديثة وعلاقتها بمجتمعها الوطني والمجتمعات المحيطة.
الجدران مكلفة للغاية، فتكلفة الميل الواحد تكاد تصل 60 مليون دولار متوقفا ذلك على سعر الأراضي وطبيعة الأرض، لكن الأهم ان الصيانة السنوية تكلفتها بالمليارات، وذلك لان الجدران تتحول لهدف واضح للرافضين لها والمتأثرين بسلبياتها. ان احد أسوأ حالات الفصل هو ذلك الذي يحيط بفلسطين في الضفة الغربية أما الذي يحيط بغزة من الجانبين الإسرائيلي والمصري. فالجدران الجديدة ستتطلب جيوشا أكثر كلفة لحمايتها في ظل مجتمعات في الداخل وحول الحدود تبحث عن العدالة وتقليل الفوارق.
الجدار هروب للوراء وعودة للقرون السابقة على الحداثة، إنها بناء جديد من خارج الزمان وتعبير عن السقوط التاريخي لكن التدريجي للدولة وخوفها من التغيرات القادمة. لقد بدأت الدولة تهرب من قضايا العصر كاللاجئين والحقوق والانتهاك والأقليات والأغلبيات والفقر والعمالة والانتقال نحو مبادئ العزلة والانزواء.