وضع الملف السوري من جديد على محك المفاوضات في اختبار آخر لمدى جدية القوى العظمى ومن تحتها دول إقليمية لحفظ ما تبقى من كيان هذا البلد العربي الذي طالما كان أحد روافد العمق القومي وجبهة صامدة في وجه الاستعمار ومن بعده الكيان الصهيوني، واجتماع فيينا الأخير الذي جمع التناقضات الدولية ممثلة في الولايات المتحدة وروسيا والتقاطعات الإقليمية الحادة التي تمثلها السعودية وإيران وتركيا لعله الدليل، وفي الوقت نفسه الملاذ الأخير لجميع الفرقاء بألا أحد يستطيع أن يستفرد بسورية على هواه وضمن مصلحته الضيقة.
رغم الجوانب الإيجابية في مؤتمر فيينا وعودة الأطراف “المتفرعنة” إلى خيار الحل السلمي، فإن بيانه الختامي يتضمن ما يدمي القلب حسرة وندامة، وينعكس ذلك في أمرين ظاهرهما الرحمة لكن باطنهما هو مكمن الشيطان، فقد أجمع المشاركون رغم تناقضاتهم على أن الشعب السوري هو وحده من يقرر مصيره! وإذا كان الأمر كذلك فلمَ حرم هذا الشعب الذي تناثر بين قتلى ومعاقين ومشردين ولاجئين وصلوا إلى كل أنحاء العالم من تقرير مصيره قبل كل هذه المآسي، بل ماذا سيكون موقف الدول، التي قدّمت كل التسهيلات والدعم والغطاء السياسي لجماعات المعارضة الإرهابية منها والمعتدلة، لو اختار الشعب بشار الأسد في انتخابات حرة ونزيهة تشرف عليها الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج؟! وبالمقابل ما رد فعل الحكومات التي ساندت النظام السوري لو اختار الشعب “داعش” وأخواته للحكم؟! وهل الاكتفاء بالقول “نحترم القرار السوري” يعوّض هذا البلد وشعبه لحظة واحدة من لحظات الرعب والقتل والدمار التي شهداها قرابة نصف عقد من الزمن؟ وأين تصرف مثل هذه التصريحات لاحقاً؟!
النقطة الثانية في بيان فيينا التي تنص على أن الجميع يتحمل مسؤولية محاربة “داعش” وبقية الجماعات الإرهابية هي المضحك المبكي، فالروس والإيرانيون والصينيون شككوا في التحالف الأميركي الذي تشكل قبل سنتين لمحاربة الدواعش، وفي مقابل ذلك يقف الغرب وتركيا والخليج بقوة في وجه العمليات العسكرية الروسية لقتال “داعش” أيضاً! فإذا كان “داعش” هو العدو المشترك فلماذا الاختلاف على مواجهته على الأرض السورية؟!
أسئلة قد تبدو محيرة والإجابات عنها متناقضة، لكن في عالم السياسة الدولية هذه هي قواعد اللعبة مهما كان الثمن الدامي الذي تدفعه الشعوب، فالمسألة ببساطة ليست التباكي على الشعب السوري وحرية اتخاذ قراره ومصيره، والهدف ليس قتال “داعش” واستئصاله من سورية وبقية الدول العربية، إنما مصالح الدول الكبرى والقوى الإقليمية هي الأصل، وهذه التبريرات مجرد أدوات لاستمرار اللعبة وسياسة كسر العظم، وحتى يكسر العظم لا بد من قطع كل اللحم الذي يغطيه، وهذا اللحم هو الشعب السوري الذي ما زال منه بقية لابد من قصها تباعاً، وإلا هل من الصعوبة قيام جيش عالمي يضم الروس والأميركيين والسعوديين والإيرانيين والأكراد والأتراك وبتمويل خليجي وياباني وأوروبي سخي لإنهاء “داعش”؟ إذا أخذنا تجربة تحرير الكويت كمثال النجاح فلا يمكن أن نشك لحظة في الفوز الحاسم والسريع للإرادة الدولية إذا ما توافرت ضد دواعش الشام والعراق والخليج وشمال إفريقيا ووسطه، لكن السكين اختار السوري المسكين!