رغم الهزة التي ألمت بالتيار الأردوغاني الإسلاميّ التوجه في تركيا في الانتخابات الأخيرة، إلا أنها من الهزات التي تفتح المجال لدور الأكراد في الحياة السياسية التركية كما أنها تعمق الديموقراطية في تركيا، وتجعل المدرسة الأردوغانية تعيد النظر في بعض سياساتها، مما يسهم في إعطاء مشروعها دفعات إيجابية. إن صعود تركيا لا يزال مستمراً بفضل قوة الدولة وتعدد شبكة مؤسساتها وعمق رؤيتها المستمدة من تاريخ قديم متجدد. تركيا الصاعدة ستبقى قوة رئيسية في الشرق، لا تقابلها بالحسم وقوة الدفع سوى إيران وفي جانب آخر التشكيل الجديد الذي تقوده المملكة العربية السعودية والذي يتطلب الكثير من العمل والإصلاحات ليحقق النجاح.
لكن تركيا ليست مفتاح الشرق الأوسط. فالنزاع كبير ومستمر في هذه المرحلة حول المشرق والمغرب بل والخليج العربي، وذلك كما كان الأمر قبل عقود عند سقوط الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. المسألة الأساسية في الشرق العربي هي القنبلة العربية الموقوتة الكبيرة التي تمثل في جوهرها حالة عنف وثورة وحراك وعملية تغيير تمس الشعوب العربية. الحدث العربي هو الأهم والأكبر منذ الحرب العالمية الأولى وثورة الشريف حسين عام ١٩١٦. هذه المرة يدور النزاع حول طبيعة الدولة العربية وذلك من حيث مؤسساتها وبنيانها ومدى تمثيلها للفئات الاجتماعية التي يتكون منها مجتمعها، كما يدور حول المستقبل والحدود وسايكس بيكو وخرائط جديدة تتبلور في وسط الأحداث. إن مأزق الدولة العربية (وإن تفاوت من مكان إلى آخر) مرتبط في الوقت نفسه بحدة تراجع حجم الطبقة الوسطى العربية، وعمق الأزمة الاقتصادية والسياسية في معظم البلدان العربية في ظل الفساد والبطالة وترابط كل هذا مع الغضب والنزوع للتمرد والعنف.
لهذا ينهار بنيان عربي قديم على مراحل، وهذا يعزز صعوبة الأوضاع العربية. فمثلاً عندما بدأ التحالف العربي والأميركي بعد سقوط الموصل في حزيران (يونيو) ٢٠١٤، ساد الاعتقاد بقرب انتهاء «داعش»، لكن تبين أن هذا التقويم غير واقعي، فتنظيم «داعش» بكل سلبياته وبكل الأوضاع التي أدت إليه هو أحد مظاهر انهيار النظام العربي. إذ ما كان يمكن لتشكيل كهذا أن يبرز قبل عشرة أعوام. كما أن اعتقاد البعض الآخر بأن مشكلة اليمن وسيطرة الحوثيين الشاملة ستحل خلال ساعات أو أيام، كان اعتقاداً آخر أحبطته التجربة. وهذا انعكاس آخر لعمق المأزق العربي. الأمور في منطقتنا ستأخذ وقتاً طويلاً، وهي لن تحل في مدى منظور، فكل الحلول ما زالت دون المستوى وكل الحروب بما فيها تلك التي تشن ضد حراكات وثورات وحركات شعبية لن تؤدي إلى انتصارات ساحقة بل كل الأمل أن تصل إلى صفقات ومساومات تحرر وتحرك وتبني وتوقف التدهور. وكما قال لورنس العرب الذي فرزته بريطانيا للتعاون مع الثورة العربية عام ١٩٢٠ عندما عبر عن ضيقه من السياسة البريطانية القصيرة النظر في العراق قائلاً: «إن شن الحرب على تمرد عملية مضطربة وبطيئة كتناول الحساء بواسطة سكين».
إن استمرار المشهد الراهن وتناقضاته يؤسس لموجة ثورية قادمة نجد مكوناتها في قاع المجتمع العربي، فالوضع العربي يزداد تشابهاً مع الوضع الإيراني عشية ثورة ١٩٧٩ ضد الشاه، كما أنه ينزلق في عدد من الدول العربية نحو الدولة الفاشلة ولا مخرج من كل هذا إلا بإصلاح ديموقراطي جاد لا نرى مقدماته إلا في حدود. إن الثورة القادمة في المنطقة العربية ستكون أكثر عنفاً وحدة من تلك الثورات التي رأيناها في ٢٠١١، فبسبب الثورة المضادة خزن المجتمع العربي الكثير من الألم والكراهية وخضع قطاع منه لمشاعر المظلومية، وهو في هذا يمزج الآن بين الكراهية من جهة وبين الألم والغضب من جهة أخرى، وهذا يكفي لإحداث قوة دفع كبيرة نحو العنف المفتوح.
إن التغول العربي الرسمي في عامي ٢٠١٤-٢٠١٥ في إغلاق المساحة العامة والإمعان في زيادة عدد سجناء الرأي وتكدس ضحايا التعذيب والإعدام وتطويع القوانين لتحقيق هذه الأهداف، سيتحكم في طبيعة ردة الفعل القادمة في العالم العربي. في المشهد العربي القادم ستعاني الفكرة الديموقراطية التي ألهبت حماس الربيع العربي ٢٠١١، وذلك لأنها أكثر فكرة تحارب من قبل الأنظمة، تماماً كما تتصدى لها فئات من المعارضة الأكثر تطرفاً مثل «داعش» و «القاعدة» وغيرهما. وفي الوقت نفسه تواجه فكرة التغير السلمي وحق كل مواطن في ممارسة العمل السياسي السلمي هجوماً من قبل الأنظمة الرافضة لمبادئ صناديق الاقتراع وسلمية التظاهر والتجمع والتعبير، وفي الوقت نفسه تواجه الآن وسائل العمل السياسي السلمي رفضاً من قبل المعارضة العنيفة. ما يجب التأكيد عليه أننا في منطقة يصعب أن يحسم طرف فيها الأوضاع والنتائج، فكل انتصار لنظام سياسي ضد معارضيه هو انتصار بطعم الهزيمة وكل حرب تدفع للحرب التي تليها. نحن في جولات بينها مراحل تهدئة والتقاط أنفاس، وكل جولة تؤسس للتي تليها، كما أننا نزداد عنفاً، والعنف في مجتمعات تميل إلى العسكرة هو العامل الصاعد الأهم في المرحلة الراهنة.
لقد أصبح العرب في هذه المرحلة مجتمع حرب وسلاح، بل أصبحوا مجتمعات معسكرة، وهذا قائم في شكل لم يشهد له تاريخ العرب الحديث مثيلاً. فهناك ملايين البنادق التي يحملها ثوار ومتمردون وفئات راديكالية وأخرى فوضوية. هذه الجماعات لم تتشكل في شكلها النهائي حتى الآن، بل تمر بمراحل تغير سريعة، وتقع في ما بينها نقاشات، بعضها فقهي وبعضها سياسي لن نرى نتائجها قريباً. تيار «القاعدة» يتراجع لمصلحة «داعش»، لكن تيار «القاعدة» قد يعود في شكل جديد، كما أن نظرية «القاعدة» عن مواجهة العدو البعيد (أميركا) تتراجع لمصلحة نظرية أخرى هي مواجهة العدو القريب الذي تمثله الأنظمة السياسية والإقليمية. كما أن آلاف المسلحين من دول عربية شتى سوف يعودون إلى بلادهم وفي ذهنهم ممارسة حروب تحرير ضد النظام السياسي.
ندخل في مرحلة شاقة، تشبه في جانب منها ظروف جنوب شرق آسيا في ستينات القرن العشرين (فيتنام واللاوس وكمبوديا) وتشبه أميركا اللاتينية في زمن الثورات العنيفة وحروب العصابات، لكن الفارق أن الشعارات هناك كانت شيوعية وتطرح قضية العدالة، أما في بلادنا فهي إسلامية بينما جوهرها هو التغير والعدالة. ولقد أنتجت كمبوديا فئة «الخمير الحمر» الأكثر تطرفاً والتي تشبه في بعض أبعادها سلوكيات «داعش» الأكثر عنفاً. بمعنى آخر ما يقع في شرقنا لا يختلف عن دول ومجتمعات أخرى مرت بما نمر به. الفارق الأهم أن درجة التدخل الدولي والمصالح الطبقية والمالية بحكم ثروة هذا الإقليم ووجود إسرائيل في قلبه هي الأكثر كثافة من كل التدخلات في الأقاليم الأخرى.
لقد مثل الربيع العربي على علاته آخر فرصة للنظام العربي لإصلاح الحال. لكن الفشل الكبير عبر عن نفسه في عدم قدرة النظام العربي على قنص تلك اللحظة من أجل إنجاز إصلاحات سياسية وديموقراطية وإنسانية في كل البلدان العربية. فتلك المرحلة من عام ٢٠١١ كانت الوحيدة التي كان يمكن أن تسمح بدمج قوى واسعة من التيار الشعبي الشارعي والشبابي لمصلحة إصلاح تنموي للنظام السياسي. ومع تراجع تلك الفترة المتفائلة عام ٢٠١١، عادت موضوعات الثورة العنيفة والإرهاب والتغير الأشمل للنظام السياسي لتطفو على السطح.
هل يمتلك النظام العربي فرصة للخروج من المأزق الذي وضع نفسه ووضع المجتمعات العربية فيه؟ وهل يعي النظام العربي أن توجهه الأمني سيفيد القوى الثورية والراديكالية والجهادية لأنه يهديها مزيداً من الأنصار والمتطوعين؟ أليس «داعش» بداية لشيء أكبر، فكيف ستؤثر في البلدان العربية عودة عشرات الآلاف من المقاتلين بعد حربي العراق وسورية واليمن؟ هل يعي النظام العربي أن مصر لن تستقر بهذا الشكل وبهذا الانزلاق نحو الحرب الأهلية، وأن بقاء الوضع الراهن سيجلب موجة ثورية عنيفة؟ وهل يعي النظام العربي أنه لا بد من نماذج حوار وحلول وسط تتضمن فتح المساحة وعدم الخوف من القوى السلمية والنقدية المعارضة مهما قالت طالما أنها ترفض العنف؟
الطريق السلمي للتغيير متوفر، وأفكار الإصلاح والتداول وثقافة الوسط ممكنة كما يؤكد النموذج التونسي. لكن الوقت يداهمنا وعدم السعي نحو نماذج مستمدة من فكر الإصلاح والتشارك سوف يسهم في بركنة الإقليم. إننا على فوهة بركان ونعيش حالة متفجرة وإننا ما زلنا كما قال لورانس العرب «نستخدم السكين في شرب الحساء».