قرأنا كثيراً، مذ كنا في المرحلة الابتدائية، في كتب القراءة وفي القصص التي عشقناها في مكتبة المدرسة وفي مسابقات الإنشاء والتعبير، أن علماء الدين المخلصين وفئة المثقفين والمفكرين في الأمة، هم النخبة التي تعتمد عليها الأوطان لنهضتها ونموها وحصانتها وصيانتها من الأزمات، وهم صمام الأمان.
لكن، أين اختفى علماء ومثقفو ومفكرو الأمة العربية والإسلامية طوال، على الأقل، السنوات الأربع الماضية والأوضاع في هذه الأمة تزداد اشتعالاً ودماراً؟ أين قائمة من أسماء لامعة في فضاء الفكر والثقافة والفلسفة والعلوم والجامعات والأبحاث، وكذلك في مجالات العلوم الإنسانية وغيرها… كنا نرى لمعان أسمائهم في الصحف ونسمع عنهم في الإذاعة ونشاهد بعض حواراتهم في التلفزيونات والفضائيات ويسبق البعض منهم كلمات المفكر، الفيلسوف، الباحث، الأستاذ؟ أين هم ولماذا غاب صوتهم تماماً؟
لعل الإجابة مفيدة إن كانت صريحة، ففي الأمة العربية والإسلامية، ولنركز على دول الخليج العربي، هناك شخصيات في مجالات الفقه الإسلامي والشريعة وفي العلوم والسياسة والفكر والثقافة، لكن لهم ثلاثة اتجاهات ولربما رابع وخامس الله أعلم، الاتجاه الأول: إما أن ينضووا تحت عباءة السلطة ويصبحوا صوتها وقلمها ومدادها؛ أما الاتجاه الثاني: فإنهم يفضلون ثلاثية (لا أرى – لا أسمع – لا أتكلم)؛ فيما الاتجاه الثالث هو ذلك العدد اليسير من المخلصين المؤمنين بقضايا أمتهم وشعوبهم ممن حاولوا التكلم بما ينفع فكتمت السلطة أنفاسهم، فابحث عنهم في مصر والعراق والشام والمغرب العربي وفي دول الخليج العربي، ستجدهم قلةً مغلوبة على أمرها.
كثيراً ما قرأنا عنوان «دور المثقفين في استنهاض الأمة»، لكن يبدو ذلك المعنى تعريفاً وتطبيقاً يتحرك وفق الظروف الاعتيادية النظرية للغاية، أما في وقت الجد واحتدام الأزمات، فالمثقف العربي يتحول إلى كيان يرتدي أكثر من وجه! ولعل المختلفين معي قبل المتفقين مقتنعون تماماً بأن أشد مراحل الأمة في كل تاريخها الحديث، بدأت في العام 2011 أو ما يسميه البعض «الربيع العربي»، فيما أنا مصر على التسمية التي اخترتها لنفسي وهي «ربيع المطالبة بالحقوق المشروعة للشعوب». ولعل المختلفين معي قبل المتفقين يتأملون هذا السؤال: متى وكيف وأين كان الدور البارز لعلماء الدين وللمثقفين والمفكرين والنخب في المجتمعات العربية والإسلامية والخليجية في الوقوف إلى صف الشعوب من جهة، ومخاطبة الحكام والحكومات ودعوتها إلى تبني منهج الشراكة في صنع القرار والحكم الرشيد من جهة أخرى؟
سيكون الجواب: بعضهم أصبح تحت عباءة السلطة، والبعض الآخر أصبح في غياهب السجون، والبعض الثالث تجده بلا بوصلة تحدد مساره.
ولابد من أن تدخل في بعض دهاليز التعقيد وأنت تناقش السؤال! فالبعض سيغرقك في المصطلحات: مدخلاتها ومخرجاتها، من قبل «المثقف العضوي» ثم «المفهوم الجمعي»، وبالتأكيد سيعرج بك نحو فلسفة «غرامشي» مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي وصاحب نظرية الكتلة التاريخية فلسفياً، وسيدافع البعض عنه نفسه بإدخال الآخرين معه في دائرة الاتهام مع أنه معه بالفعل! سيتحدث عن تقصير علماء الدين ورجال الأعمال والاقتصاد وسائر الفئات ذات الفعل المؤثر في المجتمع. نعم، نحن هنا نتحدث عن غياب كل أولئك، وتقزيم وتهميش آخرين، بل وتقديم دعاة الفتنة والطائفية والمصالح الفئوية والمتاجرين بالوطنية ومثقفي الظروف الطارئة ليقودوا المشهد من سيء إلى أسوأ بالتأكيد. إن الهم الأول بالنسبة لهم تحقيق مصالحهم الشخصية والحصول على (الدسم) والأعطيات ورضا السلطان، ولا تهمهم الأوطان على الإطلاق، وكذبتهم (بالوطنية المخلصة) لا تنطلي إلا على من خف عقله ليصدق ما يقولون.
هي حقيقة مرة، لم يكن لتلك الفئة دور واضح على الرغم من كفاءة ووطنية وجدارة الكثير من الأسماء، وكان البعض منهم قد أثار بضع محاولات خجولة على صعيد الثوابت الوطنية والمشاركة في القرار السياسي والعملية التنموية والمجتمعية والإنتاجية، وكتب بضع مقالات خجولة هي الأخرى فيما يتعلق بالتغيير الاجتماعي ومعالجة الأزمات التي تمر بها الأمة بتقديم مصلحة الشعوب أولاً وليس الحكام والحكومات والسياسيين والمتمصلحين، إلا أن كل ذلك لم يحقق أثراً في التصدي لاستبداد المستبدين وتسلط المتسلطين.
تحتاج الأمة للنخبة من العلماء المخلصين والمفكرين والمثقفين في الربط بين المواطن والسلطة، وفق ميزان الحقوق والواجبات والمواطنة والعدالة الاجتماعية، ويلزم أن يقوموا بدورهم الحقيقي (الصعب) أمام الحكام لإرساء الحكم الرشيد والتحول الديمقراطي الجاد والفعال، وترك التكرار المتعب وإلقاء التبعات على مؤامرات الخارج وتكالب الدول العظمى.
باختصار: ليس أفضل من إزالة الحواجز بين الحاكم والمحكوم، وبين الشعوب والحكومات… فالشعوب هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات.