قليلون هم البشر الذين يتركون أثرا عميقا بعد رحيلهم عن هذه الدنيا، حيث يصبحون حديثا للذكرى عبر العصور، لما أضافوه إلى التراث البشري، وتقديرا لإسهاماتهم العميقة في الحضارة الإنسانية على هذا الكوكب، وإعجابا بقدراتهم العقلية الفذة التي وهبها الله لهم، والأهم من ذلك استخدامهم لهذه العقول في خدمة البشرية بصور مختلفة وفقا للموهبة التي منحها الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ إياهم.
جون ناش، أحد عباقرة علم الرياضيات في عصرنا الحديث، أدت إسهاماته إلى إحداث تغييرات عميقة في علم الاقتصاد وفي الطريقة التي أصبحنا نتناول بها بعض القضايا الرئيسة سواء في الفصول الدراسية أو البحوث العلمية.
عند دخوله الجامعة كان من المفترض أن يدرس ناش هندسة كيماوية، لكنه تحول إلى كلية الرياضيات، وبسبب تميزه وعلامات العبقرية المبكرة التي أظهرها منحته الكلية عند تخرجه درجتين في الوقت ذاته، وهي درجتا البكالوريوس والماجستير في الرياضيات رغم أنه لم يكن قد بدأ دراساته العليا بعد، ولم لا، فقد تمكن من نشر إحدى الأوراق التي طلبت منه في المقرر الوحيد الذي درسه في الاقتصاد وهو في مرحلة البكالوريوس في مجلة Econometrica، ولكن ناش، كما يذكر اختار جامعة برنستون لأن عرضها كان أكثر سخاء، فضلا عن أنها كانت أكثر قربا من مسقط رأسه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في سن 22، من جامعة برنستون في عام 1950.
كانت رسالة الدكتوراة لناش مكونة من 32 صفحة، وفيها مرجعان فقط، واحد له، والثاني كتاب عن نظرية المباريات والسلوك الاقتصادي لنيومان ومورجنسترن، وهو ما يعبر عن أن المجال الذي بدأ ناش أعماله فيه كان بكرا، ولذلك أحدث ناش تأثيرا عميقا وقتها. أبهر ناش أساتذته، ولم يكن من الغريب أن يحتوي خطاب التوصية الذي صدر عن كلية الدراسات العلية التي درس فيها ناش على جملة واحدة وهي أن “هذا الرجل عبقري”. عمل ناش لبعض الوقت في جامعة برنستون، ثم عرضت عليه وظيفة في معهدM.I.T، وهناك قام بحل إحدى المشكلات التي لم يكن معروفا لها حل في مجال الهندسة التفاضلية.
رغم أنه عالم رياضيات إلا أنه حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد تقاسمها مع عالمين آخرين هما الأمريكي هارساني والألماني راينهارت سلتن عن دراساتهم في نظرية المباريات، التي أحدثت تحولا عميقا في مجال الاقتصاد وأيضا علوم أخرى، وأصبح الإلمام بها إحدى الأساسيات التي يتعلمها خريج الاقتصاد في أيامنا هذه. كما تسلم جائزة “أبل” في الرياضيات من ملك النرويج عن أعماله الفذة في هذا العلم.
انتشرت سمعة ناش بعد تصوير فيلم عن شخصيته اسمه “العقل الجميل”Beautiful Mind، الذي حاز أيضا جائزة أوسكار. بالطبع لم يؤد الفيلم إلى زيادة شهرة ناش في مجال تخصصه، فالأثر العميق الذي أحدثه لم يكن ليحتاج إلى مثل هذا الفيلم لمنحه الشهرة، فشهرته كانت تسبقه أصلا داخل نطاق العلوم التي تأثرت بأعماله، ولكن فيلم “العقل الجميل” منح ناش شهرة واسعة بين غير المتخصصين الذين تعرفوا على الجانب الإنساني لناش، فقد كان يعاني مرض الشيزوفرانيا، “انفصام الشخصية” المصحوب بمرض جنون العظمة، وقضي جانبا من حياته في مؤسسات العلاج النفسي، وقد صور الفيلم بعض المعاناة التي شهدتها زوجته معه.
ابتكر ناش نظرية المباريات للأطراف المتنافسة، ومن ثم مهد لنمو أحد موضوعات علم الاقتصاد في مجال المساومة أو التفاوض، ولعل أشهر موقف كلاسيكي في هذا المجال ما يعرف بمعضلة السجناء، Prisoner’s Dilemma التي توضح أن الأطراف المتنافسة قد تجد أنفسها في موقف تميل فيه إلى اتخاذ إجراءات أقل ضررا من بين البدائل المتاحة.
فقد عرض ناش لنا فكرة الوصول إلى حل معقول للاستراتيجيات المختلفة المتبعة بواسطة الأطراف المتنافسة، بحيث يحاول كل طرف أن يعظم عوائده، أخذا في الاعتبار توقعاته للاستراتيجيات التي سيتبعها الآخرون، وهو ما يؤدي في النهاية إلى توازن تعظم فيه الأطراف المتنافسة عوائدها المتوقعة، وبمعنى آخر فإنه على الرغم من اختلاط الاستراتيجيات التي تتبعها الأطراف جميعا، يظل في النهاية، باستخدام القواعد الرياضية، هناك توازن يمكن التوصل إليه.
على سبيل المثال في أسواق احتكار القلة، حيث تحاول عدة أطراف في السوق الحصول على حصة أكبر من الأطراف المنافسة باستخدام استراتيجيات مختلطة لرفع أو خفض الأسعار، أخذا في الاعتبار ردة فعل الطرف المنافس، ستنتهي بتوازن يعظم أرباح الجميع بالمنطق الرياضي ويجعلهم يتبعون الاستراتيجية ذاتها في الوقت ذاته، لأن هذا الحل يؤدي إلى تعظيم أرباحهم في السوق، مقارنة بأي توازن آخر سيعظم مصلحة طرف من الأطراف على حساب الباقي، وهو توازن لن يستمر، لأن ردة فعل الطرف الذي أضير لا بد أن تخل بهذا التوازن.
بالطبع حدثت تطبيقات كثيرة جدا على توازن ناش لحل الأطراف المتنافسة في مجالات مختلفة، مع بعض التعديلات للتطبيق البسيط الذي توصل إليه. كما أنه لاحقا تم تطوير الحل باستخدام أفكار أخرى مثل التوازن البيزي والمباريات متعددة المراحل لفهم كيفية تأثير المؤسسات في النتائج التي تحققها الأطراف بمقتضى التوازن. كما لم تقتصر تطبيقات حل ناش على علم الاقتصاد، وإنما أيضا امتدت إلى علوم أخرى مثل الأحياء واللغويات، والفلسفة، والسياسة والعلاقات الدولية.
في ظل فرضية السوق التنافسي ربما لا يكون هناك اهتمام بسلوك أي من المتعاملين في السوق، حيث يمكن للأطراف المختلفة أن تتجاهل اختيارات الأطراف الأخرى في السوق أو الصناعة، غير أن هذا الفرض يصبح غير صحيح عندما تقل أعداد الأطراف المتنافسة ويكون لها بعض السيطرة على السوق أو الصناعة. في هذه الحالة سيترتب على استراتيجية ما يستخدمها أحد الأطراف التأثير في العوائد التي تحققها الأطراف الأخرى، وهنا تتحول المنافسة إلى مباراة بين الأطراف المتنافسة.
على سبيل المثال إذا كان هناك شركتان، كل منهما يمكن أن تختار استراتيجية رفع الأسعار أو خفض الأسعار. لو اختار المتلاعبان استراتيجية رفع الأسعار فيمكنهما في هذه الحالة تحقيق أرباح مرتفعة، أما إذا ما اختارا استراتيجية خفض الأسعار فإنهما يحققان أرباحا أقل، بالطبع يمكن لأحد الأطراف أن يخفض الأسعار في الوقت الذي يتبع الآخر استراتيجية رفع الأسعار، التي بالتأكيد ستنتهي لمصلحة الطرف ذي السعر المنخفض، والعكس. في ظل هذه الفرضيات من المتوقع أن يلجأ المتلاعبان إلى رفع الأسعار، ولكنهما لن يفعلا ذلك، حيث سيختار كلاهما خفض الأسعار، وذلك في رد فعل الآخر لسلوك الطرف الأول بخفض الأسعار.
كذلك إذا كان هناك محتكر ما في السوق وقرر أحد المنافسين دخول السوق، ربما يقرر المحتكر أن يشن عليه حرب أسعار حتى يضطره إلى الخروج من السوق، وهو ما يعني أن الداخل الجديد للسوق سيحقق خسائر، لكن الأمر سيكون على المنوال نفسه بالنسبة للمحتكر، فإذا كانت الخسائر بالنسبة للمحتكر مرتفعة، فإنه بالتأكيد سيفضل أن يفتح المجال للمنافس الجديد لولوج السوق، باعتبار أن استراتيجية حرب الأسعار تصبح غير ملائمة كاستراتيجية للمنافسة.
وهكذا فإن الأمثلة التي يمكن تناولها باستخدام حل ناش تتعدد على نحو كبير، حيث تمكن توازن ناش من شرح التفاعل بين الأطراف المتنافسة في حال استقلال استراتيجياتهم، وهو ما مكن من ترقية فهمنا للتوازن في مجالات كثيرة من علم الاقتصاد على نحو أفضل، وذلك بسبب هذا العقل الأجمل.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟