التاريخ لا يعيد نفسه، مقولة ماركس، لكن إيقاعات التاريخ ودروسه تعيد ذاتها، مثلما تعيد كتابات ودراسات كثيرة في الإعلام الغربي تذكيرنا بأن ما يحدث اليوم في شرقنا من حروب دينية وطائفية ليست بالأمر الجديد في التاريخ، فأوروبا عاشت تلك المرحلة قبل 450 سنة، وعرضت دورية “فورن أفيرز” تلخيصاً لكتاب السفير هنري تيلور والأستاذة موريسون تيلور بعنوان “مواجهة الإسلام السياسي، ستة دروس من ماضي الغرب”، لا جديد يقدمه الباحثان عن تاريخ الحروب الدينية في أوروبا، إلا أنها تلقي بعض الضوء على واقع الدول وأشباهها في الشرق العربي الإسلامي.
دم غزير أهدر في صراع “الكالفانية” ضد أصلها “البروتستانتي” من جهة، ثم تحالف هذه الكالفانية مع الأصل ضد الكاثوليكية من جهة أخرى، لم يكن الصراع “عقائدياً” كما يظهر، بل له وجهه السياسي، حين يكون صراعاً على مصالح وعلى السلطة، وكان الخارج (التدخل الأجنبي) أو استغلال الحكام لهذا الصراع أداة لتمديد عمر الحكم، لكنه سرعان ما ينقلب المتصارعون على سلطة الحكم، فأسرة “هابسبورغ” الحاكمة للدولة الرومانية المقدسة (المانيا) تصورت أنها بتأجيج الصراع البروتستانتي الكالفيني سيمكنها السيطرة على الدولة وتمديد عمر الحكم الكاثوليكي، إلا أنه في النهاية تحالف الفريقان المتحاربان ضد الأسرة الحاكمة. تلك الصراعات والحروب التي يحارب كل طرف الآخر باسم العقيدة، وأنه وحده يمثل العقيدة المسيحية الصحيحة، امتدت عقوداً، وانتهت بنهاية حرب الثلاثين عاماً وتوقيع معاهدة ويستفاليا 1648، التي كرست مفهوم الدولة القومية، وأسست في ما بعد فكرة اتفاقيات الأمن الجماعي لتكون السابقة التاريخية لعصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة.
في شرقنا مازالت دوله تحيا ما قبل هذا التاريخ، فهناك صراع طائفي بين السنة والشيعة، وصراع آخر بين دعاة الدولة الدينية والدولة العلمانية، وهناك تدخلات خارجية استغلت تلك الصراعات لتعزير نفوذها وتحقيق مصالحها، وزادت بالتالي من نيران الصراعات القبلية أو الطائفية والدينية، تدخلت الولايات المتحدة في العراق، ثم ليبيا، ثم هناك تدخلات دول إقليمية لنزاعات داخلية لدول تجاورها، لتسكن هواجس قلق أمني على الحدود أو لتحقيق مصالح تلك الدول في مد نفوذها وهيمنتها خارج أقاليمها، ونشهد الآن حرب الوكالات في سورية واليمن وليبيا، بعد أن كانت قاصرة على لبنان بين عامي 75 و90 من القرن الماضي.
قبل أن نصل إلى خيارات المنطقة المستقبلية، يحذر الكاتبان من استهانة جانب العقيدة عند عدد من العلمانيين العرب، الذين تناسوا تاريخهم (الشريعة الحاكمة لمعظم سنواته الطويلة)، واعتقدوا أنه يمكن أن يستنسخوا التاريخ الأوروبي دون المرور في اختناقاته الماضية، ليصل الباحثان إلى أن مستقبل الحروب الدينية الطائفية ينحصر في ثلاثة احتمالات، أولاً: انتصار حاسم لطرف ضد الآخر، وهذا احتمال بعيد جداً في واقعنا العربي، ثانياً: تفاهم بين المتصارعين حين تنهكهم الحرب الممتدة ليتجاوزوا حربهم الدامية ويصلوا إلى صيغة لا غالب ولا مغلوب، ثالثاً: قيام حكم بتوليفة وسطية توفق بين المتصارعين وتمثل حلاً نهائياً لأزمة الشرعية، فمثلاً يمكن اعتبار الملكية الدستورية في بريطانيا “توليفة” وسط بين مطالبات ثورة كرومل (الثورة المجيدة) والتقليد الملكي، لتؤسس، تاريخياً، أكثر الدول البرلمانية استقراراً. ويمكن اعتبار نموذج “الإسلامي الديمقراطي” مثالاً آخر لو تحقق، بصرف النظر عن تحفظات واعتراضات الكثيرين من أن الإسلام يناقض الديمقراطية، فالتجربة التونسية على صغر حجم هذه الدولة يمكن التعلم منها، أيضاً حكم حزب العدالة والتنمية (نوعاً ما) في تركيا يعد مثالاً آخر، رغم تحفظ الكاتبين عن ممارسة الرئيس رجب طيب أردوغان السلطوية، وأخيراً تعد الجمهورية الإيرانية بكثير من التحفظ نموذجاً، رغم أن المرجعية النهائية بيد الولي الفقيه وليس الأمة.
ختاماً كان من الممكن اعتبار حكم الإخوان المسلمين القصير في مصر تحقيقاً لهذا النموذج التوفيقي المطلوب لولا أخطاء الرئيس مرسي في تجميع واستئثار السلطة بيده… لكن هل يبرر هذا الاستئثار الانقلاب على شرعية الحكم في مصر (من عندي)… ألا يمكن تصور أن ضرب “الاعتدال الإخواني”، إن صح مثل هذا الوصف، قد فتح المزيد من أبواب التطرف والعنف في المنطقة التي شرع فيها التطرف الديني من بداية هزيمة 67…؟! وهل كان من الممكن أن تتطور التجربة الإخوانية في مصر لتكون شبيهة لتركيا أو تونس، أم كنا بصدد مستقبل شعبوية تسلطية تحتكر السلطة نهائياً وتهمش الآخرين…؟ أسئلة لم تتعرض لها دورية فورن أفيرز في المقال، قد نجدها في الكتاب ذاته.