ليت الأنظمة العربية المتحجرة تتذكر حكمة: زرعتم الريح فحصدتم العاصفة، فمع كل الضربات الجوية المستمرة وتحالف ستين دولة، يحقق تنظيم “داعش” انتصارات في شرقنا المستوطن زمانياً في العصور الوسطى رغم مظاهر الحداثة الخاوية، فحين يستولي “داعش” على مساحات شاسعة من سورية والعراق، ويقتل ويفجر في مصر والسعودية، ولا يمكن استثناء أي قطر عربي آخر من لعنة سرطان داعش، على الأنظمة العربية أن تتساءل ولو لمرة واحدة، هل “ظاهرة داعش” حالة غريبة استثنائية، وتمثل شذوذاً في الوضع العربي الآن، أم إنها تحصيل حاصل لواقع المجتمعات والأنظمة العربية، ونتيجة طبيعية له.
اسم المرض السرطاني الذي ينخر في العقل العربي الإسلامي اليوم “داعش”، وقبل فترة بسيطة كان اسمه القاعدة، وقبل ذلك كان له اسم “الأفغان العرب” أو “المجاهدون”، وكم كان مثل تلك الأسماء مصدر فخر واعتزاز عند الكثيرين في المجتمعات العربية المتعصبة، وتظل عنونة القتال والفتك باسم الدين تارة والطائفة تارة أخرى تتغير، لكن يبقى مضمونها واحداً، وهو رفض الآخر المختلف، مع الإيمان بخرافة متجذرة عند دعاة الدولة الدينية ومفتيها بأنهم وحدهم أهل الحق وأصحاب الجنة، وبقية الدنيا بمن فيها من أهل الباطل والنار.
تنظيم داعش وأهله وعشيرته المؤسسون، ليسوا فطراً غريباً نما في صحاري العرب القاحلة طبيعة وحداثة، هم أولاد تاريخ ديني طائفي عميق الجذور، وممارسة تسلطية من أنظمة حكم حكمت دون مشروع حضاري ولا رؤية لحاضر ومستقبل شعوبها، فتنظيم “داعش وإخوانه وجدوده” حالة طبيعية متوقعة مع الظروف التي تعيشها المنطقة العربية، وهي لا تشكل نقيضاً للنظام العربي الحاكم، وإنما هي صورة أخرى له وأحد تجلياته.
لا جدوى في الوقت الحاضر من إطلاق عبارات من شاكلة “داعش ليس من الإسلام والمسلمين”، فالذين يفجرون أنفسهم ويقيمون الحدود ويتشددون في التفسير السلفي للدين ليسوا خارج الإسلام، وهم يؤمنون بأنهم يقومون بواجبهم الشرعي الجهادي، ولا يهم تسميتهم بإرهابيين وانتحاريين، طالما هم على يقين في عقيدتهم بأنهم يؤدون واجبهم الديني، ولا معنى لتكرار القول إن داعش العراق ولد من ممارسة نظام المالكي الذي استبعد سنة الدولة من المشاركة، أو أن الولايات المتحدة بتدخلها في العراق، وإطاحتها بنظام صدام، وحل الجيش العراقي وحزب البعث، قد بذرت بذور داعش، بعد أن استوطن اليأس وغياب العدالة في قلوب سنة العراق، ولا فائدة من أن نكرر الحديث عن أسرة الأسد وحكمها الدموي لسورية، أو التذكير بأن الجهاد الديني ترعرع على ضفاف أنهار النفط الخليجية، فكل تلك مسلمات بديهية، وإن كانت أغلبية شعوب المنطقة لا تعيها ببركة الوعي والتعليم المتخلفين اللذين رعتهما وكرستهما دول النظام العربي.
قد ينتكس داعش عسكرياً هنا، أو هناك، وحدث أن قتل الزرقاوي عام 2006 وخرج البغدادي، وإذا قتل الأخير فحتماً سيخرج زرقاوية وبغدادية ودواعش وقواعد غيرهم، فرحم هذه الأمة شديد الخصوبة للتطرف والإرهاب بجذوره القبلية، طالما ظلت ثقافتنا على حالها، وطالما ظلت الأنظمة العربية تغطس رؤوسها بالرمال، وتخشى أن تصارح وتواجه شعوبها بحقيقة أزمتها الحضارية، وتظل تستنجد بالشرعية الدينية كي تصرف النظر عن الشرعيات الدستورية، سيبقى الفكر الداعشي مستوطناً في اللاوعي العربي المسلم، فمتى يصحو حكام هذه الأمة ويصلحون أنظمتهم ودولهم الفاشلة أو السائرة بدروب الفشل قبل أن ينتشر سرطان داعش بجسد الأمة…؟!