يحاول البعض أن يوحي لنا بين فترة وأخرى أن مناهج التعليم لدينا من أسباب انتشار ظاهرة التطرف التي تعيشها المنطقة، وهذا خلاف الحقيقة، فالمتتبع لأحوال المتطرفين يجد فيهم الطبيب والمهندس وخبير الكمبيوتر والاتصالات. وفي المقابل، كل من تميز في مجتمعاتنا علمياً وأدبياً وحسن أداء في عمله، هو من نتاج هذه المناهج التي ينعتها البعض بأنها فرّخت كل هؤلاء المتطرفين!
إذاً العلة ليست مناهجنا التي درسناها وتربينا على علومها، ولا يحاول البعض أن يأتي بآية قرآنية أو حديث نبوي يدعو إلى الجهاد أو قتل الكافر، ثم يقول إنها تدعو إلى التطرف. وكلنا نعلم أن هذه الآيات والأحاديث تنظِّم شؤون الدولة الإسلامية، وتحدد واجبات الحاكم وولي الأمر في دفاعه عن الدولة، وفي فرض الأمن وسلامة المجتمع، وليس لكل من هبَّ ودبَّ أن يطبق الأحكام الشرعية بالطريقة التي يراها، وبالأسلوب الذي يدخل مزاجه! لذلك من أراد البحث عن حقيقة التطرف ودوافعه، فليبحث عنها في مكان آخر، وفي زاوية أخرى من زوايا المجتمع. وكي اختصر على القارئ عناء البحث، انظر إلى نفسيات الذين هجروا أهاليهم وانضموا إلى الحركات الجهادية المتطرفة منها والمعتدلة، تجد أنهم محبطون من أوضاعهم التي يعيشونها في مجتمعاتهم، التي ينخر فيها الفساد المالي والاقتصادي والأخلاقي، حتى أصبح الطبيب والمهندس والاقتصادي ينتظر سنوات طويلة من عمره لكي يحصل على وظيفة مناسبة يستر فيها نفسه وذويه، بينما غيره تحجز له وظيفته قبل التخرج! كما أن القمع والاستبداد، اللذين تمارسهما كثير من أنظمة الحكم في العالم الثالث، جعلا البعض يشعر بأن حياته أصبحت جحيماً لا يطاق، فالإنسان يريد أن يعيش بفطرته حراً عزيز النفس، بينما هو يعد أنفاسه قبل أن يتلفظ بالكلمة خوفاً من العقاب والمصير الغامض.
بقي سبب آخر مهم لهذه الظاهرة التي نحاربها اليوم، بعد أن أوجدناها نحن بأيدينا مع سبق الإصرار والترصد، ذلك هو محاربتنا للتيار الإسلامي الوسطي والمعتدل وشيطنته وتشويهه في جميع وسائل الإعلام، وتقريب التيارات الدينية المكشوفة للناس انتهازيتها وممارستها لمسح الجوخ للسلطان وتزيين أفعاله وأقواله، كل ذلك جعل البعض يبتعد عن التيارات المعتدلة خوفاً من الاتهام الجاهز والمعلّب، وكذلك يبتعد عن التيارات التي تهادن السلطة؛ لقناعته بفساد منشأها ومنهجها، فلا يجد مع الأسف إلا التيارات المتطرفة تحتضنه، ويجد فيها شعارات وآمالاً وأحلاماً كان يفتقدها في مجتمعه الذي نشأ فيه! مع أن الكثير منهم يكتشف أنها وعود وأحلام كاذبة، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن تلبس بالقضية، أو كما يقولون بالجرم المشهود!
نقطة أخيرة، وهي أن كثيراً من المجاهدين في أرض الرباط في سوريا مثلاً يقاتلون لإزاحة الظلم عن الشعب المغلوب على أمره، وهم لا يحملون أفكاراً تكفيرية لشعوبهم وللآخرين، ولا يقتلون مدنياً، ولا يمارسون التفجير العشوائي، الذي يمارسه غيرهم من المتطرفين، أمثال «داعش» والحشد الشعبي وميليشيات فيلق بدر وحزب الله، بل يقاتلون جيش النظام العلوي الطائفي، ونحن نعتقد أنه يجب التمييز بين هؤلاء وغيرهم في نظرتنا لهم، مع قناعتنا بأن معظم هؤلاء هم من أبناء الشعب السوري وليسوا دخلاء عليه، كما يحاول البعض الترويج له!
أسباب التطرف معروفة، وحصرها في المناهج هو تسطيح للمشكلة وتشويه مخل، ولنصلح أحوالنا تنصلح معنا أجيالنا.