حدث هذا الأسبوع تطور مهم في العلاقات التجارية الصينية – السعودية، حيث اتفق الطرفان على تسوية المعاملات التجارية بينهما، وذلك من خلال استخدام ترتيبات خاصة تسمح للطرفين باستخدام عملة كل دولة في تسوية المعاملات التجارية فيما بينهما، في إطار نظام لمعدلات صرف بين العملتين يتم تحديده بصورة مباشرة دون استخدام عملة دولية وسيطة كالدولار الأمريكي. على سبيل المثال ستقوم السعودية باستيراد السلع من الصين، ويمكن أن تدفع قيمة هذه المنتجات بالريال السعودي، بينما تقوم الصين باستيراد النفط من السعودية، ويمكن أن تدفع قيمة هذه الواردات باستخدام الرينمنبي الصيني. بهذا الشكل يمكن للدولتين تسوية المعاملات التجارية فيما بينهما باستخدام عملتيهما.
من أهم مزايا هذا النظام أنه سيخفف من استخدام العملات الأجنبية (الدولار) في تسوية المعاملات التجارية بين البلدين؛ فبدلا من أن تستخدم الصين الدولار الأمريكي في سداد واردات النفط من المملكة يمكنها في هذه الحالة أن تستخدم الرينمنبي أي عملتها المحلية (عملة سهلة بالنسبة لها) بدلا من استخدام الدولار الأمريكي (عملة صعبة) في السداد، كما يمكن للمملكة أن تدفع قيمة ما تحتاج إليه من الصين باستخدام الريال السعودي (عملة سهلة بالنسبة لها) بدلا من أن تدفع قيمة ما تستورده من الصين بالدولار الأمريكي (عملة صعبة).
الاتفاق الصيني – السعودي ليس أمرا جديدا بالنسبة للصين فمنذ فترة والصين تحاول التخلص من هيمنة الدولار الأمريكي على المعاملات التجارية الدولية. ففي إطار اتحاد “البريكس” التي ترمز إلى الأحرف الأولى من أسماء دول البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا على التوالي، قررت هذه الدول أن تدعم مستويات التجارة الدولية فيما بينها، وذلك من خلال استخدام عملاتها الوطنية في تسوية المعاملات التجارية فيما بينها.
بمعنى أن الهند عندما تستورد أي سلعة من دول المجموعة، على سبيل المثال، من جنوب إفريقيا سوف تدفع لجنوب إفريقيا قيمة وارداتها منها بالروبية الهندية، وجنوب إفريقيا ستدفع للصين قيمة وارداتها منها بالراند الجنوب إفريقي، وهكذا وليس بالدولار الأمريكي عملة التسوية الأساسية للمعاملات التجارية الدولية، وهو اتفاق يستهدف تحقيق هدفين في الوقت نفسه، الأول هو تدويل استخدام عملات هذه الدول على نحو أوسع مما هو سائد حاليا، بصفة خاصة الرينمنبي، وثانيا وهو الأهم، التخلص من استخدام الدولار الأمريكي في تسوية المعاملات التجارية البينية بين هذه الدول.
منذ ذلك الوقت والصين توسع نطاق اتفاقياتها الثنائية مع عديد من دول العالم لتسوية المعاملات التجارية فيما بينها، دون استخدام الدولار كأساس لتحديد أسعار صرف عملاتها من جانب، واستخدام الرينمنبي في مقابل العملات المحلية للدول الأخرى من جانب آخر. لكن السؤال الذي سألني عنه كثيرون هو، ما مزايا هذا النظام الجديد لدولة مثل السعودية؟ أو ما مزايا تصدير النفط بالرينمنبي، واستيراد السلع الصينية بالريال السعودي؟
واقع الحال أن هناك مزايا عديدة لمثل هذا الاتفاق لكل من المملكة والصين. فأولا، ستتجنب المملكة آثار التغيرات العنيفة التي تحدث للدولار من وقت لآخر على أسعار وارداتها من الخارج، فعندما يرتفع الدولار الأمريكي، ترتفع تكلفة السلع التي تستوردها المملكة من الدول الأخرى غير الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يغذي التضخم المستورد في المملكة من خلال ارتفاع أسعار الواردات. بالطبع عندما ينخفض الدولار عالميا فيحدث العكس وتنخفض أسعار الواردات، وهو أمر قد يكون في مصلحة المستهلك، لكن هذا التقلب المستمر في قيمة الدولار يؤدي إلى عدم استقرار الأسعار الأمر الذي يضر بالمستهلك في الأساس.
بالنسبة للصين سيسهل عليها مهمة تدبير ما تحتاج إليه من الدولار لدفع قيمة ما تستورده من الخارج، كما سيساعد على استقرار أسعار وارداتها من الخارج بصورة أكبر. هذا الاستقرار في أسعار الواردات للدولتين يمكن تعزيزه بصورة أكبر إذا ما تم الاتفاق على صيغة محددة لمعدلات صرف ثابتة ومستقرة بين عملتي الدولتين، على النحو الذي يضمن أن تغيرات أسعار الواردات ستعكس في الأساس تغيرات تكلفة إنتاج السلع وتغيرات الأسعار السوقية فقط، بينما تتجنب آثار تغيرات قيمة الدولار على عملتي الدولتين ومن ثم على أسعار وارداتهما.
بالنسبة لكل من الصين والمملكة فإن الاتفاق سيعزز من المركز الدولي لعملتي الدولتين ويعزز سبل استخدامهما في تمويل التجارة الخارجية للدولتين، بصفة خاصة، يمكن أن تتعزز مكاسب المملكة من الاتفاق إذا ما تم إدراج الريال في أية اتفاقيات متعددة الأطراف بين الصين والدول الأخرى، على سبيل المثال إذا ما تم مد الاتفاقية مع الصين لتشمل اتفاقية الصين مع دول البريكس لتتضمن أيضا استخدام الريال السعودي، هنا ستتسع إمكانات استخدام الريال في اتفاقيات تجارية متعددة الأطراف وتتعزز مكاسب المملكة من مثل هذا الاتفاق.
هذا غيض من فيض مما توصلت إليه من تحليل مزايا النظام الجديد، بالطبع هناك عيوب مرتبطة أساسا بطبيعة عمليات التدخل في تسعير التجارة وتوجيه التجارة نحو وجهات تجارية محددة.
بالطبع الخاسر الوحيد في هذا الاتفاق هو الدولار الأمريكي، حيث ستنهي الدولتان استخدام الدولار كعملة وسيطة بين كل من الريال والرينمنبي، وبالتالي سيتم تحديد معدل الصرف بين العملتين بصورة مباشرة دون الحاجة إلى عملة دولية وسيطة بين العملتين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، هل سيؤدي هذا الاتفاق إلى إضعاف مركز الدولار الدولي في التجارة العالمية؟
الإجابة عن هذا السؤال هي أنه لن يكون هناك تأثير جوهري على مركز الدولار في المعاملات التجارية أو المالية الدولية، وذلك بالنظر إلى صغر حجم المبادلات بين الدولتين بالنسبة لحجم المعاملات اليومية بالدولار على المستوى الدولي، التي تقترب حاليا من ستة تريليونات في اليوم الواحد. لكن من المؤكد أن استمرار اللجوء إلى مثل هذه الاتفاقيات بين دول العالم المختلفة سيضعف المركز الدولي للدولار، ولكن ذلك الأمر سيستغرق مدى زمنيا طويلا وضعفا في المعاملات التجارية والمالية الدولية للولايات المتحدة.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟