لم تعُد دولة الكيان المحتل الصهيونية تكترث كثيرًا بتنفيذ الخطط التدميرية في عمق المجتمعات العربية، فقد نجحت إلى حدٍّ كبير، وعلى مدى سلسلة مؤتمرات (هرتزيليا السنوية منذ العام 2002)، في أن تشرب نخب الانتصار وهي تشاهد أكثر من بقعة عربية تتمزق تمزيقًا، وتأنس بما تتابعه من تقارير استخباراتية وإعلامية بالصدام والتناحر السياسي والمذهبي والاجتماعي في الكثير من المجتمعات العربية… إذن، هل لايزال الكيان الإسرائيلي في «عين العاصفة؟».
مرت ثلاثة أشهر منذ عقد مؤتمر «هرتزيليا» هذا العام في (يونيو/ حزيران)، تحت شعار: «أمل إسرائيلي… رؤيا أم حلم»، ولم نجد حتى الآن من مراكز الأبحاث العربية أو من الإعلام العربي وفضائياته أي تركيز أو معلومات أو تحليلات أو حتى ندوات حوارية مصغرة تتحدث عن هذا المؤتمر، وتربطه بشكل متعمق بنسخه السابقة، ليعلم المواطن العربي ما الذي يحيكه هذا الكيان الخبيث ضدَّ الأمة العربية والإسلامية، والحال أن الإعلام العربي و(بلاعيم) الخبراء والساسة وأباطرة الفضائيات الذين (يلعلعون) لنشر الكراهية والصدام في المجتمعات العربية، كلهم (سكتم بكتم)! ما يجعلنا نتساءل: «هل يمكن أن يتفرغ الإعلام العربي ومراكز البحوث ومن يسمون أنفسهم متخصصين وخبراء استراتيجيين، في جهدهم الأكبر، للتحاور في فوائد الحروب والقمع وتبرير الإرهاب ودعمه، ويغفلون تمامًا عما يحيكه الصهاينة ويعلنونه من خلال هذا المؤتمر المنسوب اسمًا إلى مؤسس الصهيونية «تيودور هرتزل»؟ وهل تلك (البلاعيم) القوية شديدة على السياسيين والحقوقيين والحركات المطلبية في الوطن العربي، ورحيمة على مخططات الصهاينة؟».
إذا رجعنا إلى العام 2012، فإن مؤتمر «هرتزيليا» كان قد وضع شغله الشاغل على استغلال ما سمي بالربيع العربي لصالحه من جهة، ولدهورة الأوضاع في الدول العربية والإسلامية داخليًّا من خلال مضاعفة الصراع الطائفي والاجتماعي باستغلال ما يحدث من حراك لصالحه أيضًا، وكان شعار ذلك العام: «في عين العاصفة: إسرائيل والشرق الأوسط»، وبقوة، كان كبار المسئولين السياسيين والعسكريين الصهاينة يتبادلون مواقعهم على منصة أوراق العمل والكلمات، وبالطبع، اهتمَّت الكثير من مراكز الأبحاث الصهيونية وخبرائها بتضمين أوراق عملهم وأبحاثهم وتقاريرهم الكثير الكثير مما ينفعهم في نفخ نيران الصدام المذهبي والعرقي والحقوقي فضلاً عن السياسي، إلا أنَّ أولئك الخبراء كانوا في غاية الارتياح وهم يخططون لمواصلة اشعال الصدام المذهبي بين السنة والشيعة وبين مختلف الطوائف في المجتمعات العربية، والبحث عن وسائل وأفكار جديدة يقدمونها إلى الطائفيين في الأمة ليقوموا بعملهم.
إن حجم العمل الذي يقوم به الصهاينة في هذا المؤتمر وذلك التحشيد الكبير والتحرك المذهل لبحث السياسات الأمنية والدفاعية صيانةً لنظرية الأمن الإسرائيلي، لا يمكن أن نرى ولا عشر معشاره في أية دولة عربية أو إسلامية! ولاسيما تلك التي ليس لديها أدنى قدرة حتى على صيانة سلمها الاجتماعي ونسيجها الوطني والتصدي للتطرف والتشدد، وليس مستغربًا أبدًا، أن يرى المتابع لذلك المؤتمر، أن توصياته ونتائجه وتحذيراته وتوقعاته تقع بالفعل على صعيد العالم العربي والإسلامي! بالطبع ليس مستغربًا، فهم من يقرر وما على حلفاء الخنوع في الأمة إلا التسليم والتنفيذ.
بضع تقارير متواضعة في الصحافة العربية تناولت ما تيسر عن هذا المؤتمر الذي وصفته بأنه «العقل الجماعي الاستراتيجي المفكر في مستقبل إسرائيل»، وهو مرجع أساسي للحكومات الإسرائيلية في اتخاذ قراراتها العدوانية، وتحديد حروبها القادمة، بهندسة وتكتيكات من معهد السياسة والاستراتيجية «IPS»، ويتولى تلك التكتيكات والخطط ومسارات التآمر في ذلك المعهد فريق عمل بقيادة ضابط موساد سابق هو عوزي آيراد.
الصهاينة لم يعودوا يخططون لكيفية ترسيخ كيانهم المحتل وإزالة دولة عربية اسمها «فلسطين» من على الخارطة، بل يرون أن تعزيز أمنهم القومي يتطلب العمل ليل نهار في الأبحاث والدراسات الدقيقة العميقة، وليس في القصائد والأشعار والرؤى الإنشائية والخطط المهلهلة، لكن ما الذي يمنع من أن تنشط مراكز البحث العربية في الحكومات وفي الجامعات وفي المؤسسات على اختلافها في أن تنسى الماضي الفاشل وتبدأ في إثبات ضرورة البحث العلمي وقراءة الواقع والمستقبل؟ ولماذا يصر الإعلام العربي على نظرية «سكتم بكتم»، وهو يمتلك كل هذه الإمكانيات الضخمة التي تتصدرها الحوارات المتخلفة وبرامج الهاء الشباب ونشر المواد المليئة بسموم التدمير الفكري والأسري والاجتماعي؟
بالتأكيد، هناك باحثون ومتخصصون يبلون بلاءً حسنًا على مستوى أبحاثهم ودراساتهم، إلا أن الأمة اليوم في حاجة إلى أن تتحرك حكوماتها بشكل جاد وتبدأ – أولًا – في إزالة كل مسببات الاحتقان الطائفي والصراع بين المكونات وإيجاد برامج وطنية للتنمية محورها الديمقراطية والشراكة في صنع القرار والتصدي للفساد والقمع، وانتهاك حقوق الإنسان والعبث بمقدرات الأوطان.