بصعود الراحلة مارجريت تاتشر، التي أطلق عليها لقب المرأة الحديدية، إلى سدة الحكم في المملكة المتحدة في 1979 أخذت في تطبيق سياساتها الاقتصادية الجديدة التي تمثلت في تشجيع قوى السوق وتطبيق النظام الاقتصادي الحر أو ما أطلق عليه الليبرالية الجديدة التي تمثلت أهم جوانبها في تطبيق قوانين الخصخصة، وعلى الرغم من قصر الفترة التاتشرية في الحكم، إلا أنها أحدثت ثورة في العالم أجمع، متمثلة في انتهاج عمليات التخصيص أو الخصخصة كأسلوب في إدارة وتوزيع الموارد في الاقتصاد والتخلص من كل ما هو عام أو ذو ملكية عامة.
في البداية اقتصرت عمليات التخصيص على تحويل المؤسسات الإنتاجية ذات الأصول الحقيقية من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة باستخدام أساليب عدة، جميعها ينتهي بتخلص الدولة من ملكية الأصل العام وتحويله إلى ملكية القطاع الخاص. كانت الحجة الأساسية في عمليات التخصيص تتمثل في أن الملكية العامة للأصول الإنتاجية تحول تلك الأصول إلى أصول غير كفوءة، مرتفعة التكلفة منخفضة الجودة… إلخ. وأن الخصخصة ستخفض من الالتزامات المالية للحكومات وتخفض حجم الميزانيات العامة وتقلل من الدور الذي تقوم به الحكومة في الاقتصاد، وبما أن الحكومة مدير غير كفء للموارد، مثلما افترضت كل كتابات الخصخصة، فإن عمليات التخلص من الأصول العامة وتحويلها للقطاع الخاص سترفع من كفاءة استخدام الموارد في المجتمع ومن ثم ترفع الكفاءة الاقتصادية بشكل عام.
عبر سنوات طويلة ومنذ الحقبة التاتشرية آمن العالم بالخصخصة، وأصبحت أداة أي نظام يريد إعادة ترتيب أوضاعه الاقتصادية، وأصبح الدور المحدود للحكومة هو الموضة الاقتصادية للعصر الذي نعيش فيه، وتراجع، أو ربما مات ما يسمى باقتصاديات المشروع العام، أو العمعمة Nationalization.
في وسط ضوضاء الخصخصة اختفت تماما عيوب النظام القائم على قوى السوق، وأصبح الحديث عن النظم الاقتصادية غير النظام الرأسمالي، أو النظام القائم على قوى السوق هو حديث عن نظم غير عملية وغير واقعية ولا تصلح سوى في الاقتصادات غير الكفوءة. وتم دهس مزايا المشروع العام نظريا وعمليا، بل وغض النظر عن عيوب عملية الخصخصة، وتجاهل تأثيراتها الضخمة خصوصا في الدول النامية في جيوش العمال الذين تم التخلص منهم، والذين تحول الكثير منهم إلى يد عاطلة بعد أن فقد فرصة الحصول على عمل خارج القطاع العام. وعلى رصيد رأس المال الثابت حيث فشل الكثير من المشاريع العامة في العمل بكفاءة في ظل نظام السوق فأغلقت أو تحولت إلى أنشطة أخرى معظمها طفيلية، وعلى المستهلكين الذين أصبحوا يدفعون أثمانا مرتفعة للسلع في ظل المشروع الخاص، وهكذا. في خضم الحماس للخصخصة اقترح مؤيدوها تطبيقها على أي شيء وكل شيء، وأصبح كل نشاط أيا كان نوعه أو طبيعته أو القيود عليه قابلا للتخصيص. من أشكال الخصخصة التي كانت كثيرا ما تثير دهشتي ما يسمى “بخصخصة السجون”. وكنت دائما ما أتعجب كيف يمكن خصخصة عملية عقاب مجرم خطير على المجتمع بصورة أو بأخرى. لكن كانت تأتيني التجارب الناجحة في إدارة السجون الخاصة في العالم لتخرسني، وتقنعني بأنه حتى هذا النشاط هو نشاط قابل للتخصيص، وأن خدمات السجون في يد الدولة غير كفوءة، ومنخفضة الكفاءة ومرتفعة التكلفة.
يوم الأحد الماضي قرأت موضوعا في “الوول ستريت جورنال” أثلج صدري، حيث أعلنت وزارة العدل الأمريكية أنها تعتزم التوقف التدريجي عن استخدام السجون الخاصة، من خلال السماح لعقودها بالانتهاء دون ما تجديد، باعتبار أن السجون الخاصة تعد سيئة مقارنة بتلك التي تديرها الحكومة الأمريكية. وقد أوجز القرار في مذكرة من سالي ييتس نائب المدعي العام الأمريكي، التي أشارت إلى أن السجون الخاصة تعد سيئة مقارنة بتلك التي تديرها الحكومة، والذي يعد بمثابة أول اعتراف بفشل عملية الخصخصة في إدارة السجون.
نقطة الاعتراض الأساسية هي أن السجون الخاصة تهتم أساسا بالتوفير في التكلفة، ولذلك لا تقدم المستوى نفسه من برامج الخدمات الإصلاحية للسجناء التي هي بالطبع مكلفة، من جانب آخر، فإن السجون الخاصة لا تقدم المستويات نفسها من السلامة للسجناء أو ذات المستويات من الأمن التي تحرص السجون العامة على تقديمها.
هذه الخطوة بالنسبة لي تعد نقطة تحول جوهرية في مسار الخصخصة، فلأول مرة يتم الاعتراف أن الخاص أسوأ من العام، أو أن الإدارة العامة أفضل من الإدارة الخاصة، على عكس ما ظللنا نستمع إليه ونردده طوال نصف القرن الماضي تقريبا وهي الحقبة التي أسميها حقبة الخصخصة. بالطبع الأمر لن يتوقف عند الولايات المتحدة، فهناك عدد كبير من الدول يحاكي فكرة خصخصة السجون، التي ربما تنتقل إليها الفكرة وتحذو حذو الولايات المتحدة.
كان مكتب الولايات المتحدة للسجون قد بدأ في استخدام السجون الخاصة في عام 1997، وكانت تستخدم في البداية للسجناء الذين يقضون بعض الوقت قبل ترحيلهم إلى السجون العامة التي تشرف عليها الحكومة. ووفقا لبيانات وزارة العدل الأمريكية فإن السجون الخاصة تؤدي دورا لا يمكن تجاهله. ففي 2013 آوت السجون الخاصة نحو 15 في المائة من السجناء الاتحاديين، من جانب آخر فإنه وفقا لأحدث البيانات هناك نحو 22100 سجين يقيمون في سجون يديرها القطاع الخاص، أو ما يعادل 11 في المائة من إجمالي السجناء. من جانب آخر، فإنه وفقا لبيانات وزارة العدل الأمريكية عن 2014، هناك عقود مع شركات خاصة بالسجون تقدر قيمتها بنحو 640 مليون دولار سنويا.
فهل قاربت حقبة الخصخصة على الانتهاء؟ وهل نشهد تحولا في مسار إدارة الموارد الاقتصادية للمجتمعات من خلال صورة ما من صور العمعمة، حتى ولو كانت بشكل جزئي؟ وكما كانت خصخصة السجون آخر باب كنت أتوقع أن تنجح من خلاله الخصخصة، فهل بعد ثلاثة عقود من استخدام السجون الخاصة تكون خصخصة السجون هي أول أبواب فشل سياسات الخصخصة في العالم؟ أم أن فشل خصخصة السجون لن يغير من فكرة العالم حول الخصخصة؟ أسئلة كثيرة تتبادر إلى ذهني، ولا شك أن الإجابة عنها ستتطلب الانتظار لسنوات طويلة في المستقبل.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟