دخل مكتبي مطأطئ الرأس، تبدو عليه إمارات الإرهاق، وجلس على أقرب مقعد، وهو يطلق زفرة حرى، وقال بعد التحية سأحكي لك ما يحزنني، فلا تقاطعني:
هل تتذكر لقاءنا في اليوم الثاني للغزو والاحتلال الصدامي لوطننا العزيز؟ هل تتذكر كم المشاعر المتضاربة التي كانت بداخلنا، وكل الخوف الذي كان يلفنا من المصير الأسود الذي كان ينتظرنا، إن لم تتحرر بلادنا سريعاً؟ لقد كان الخوف حينها مشروعاً ومرعباً، ولكني الآن أشعر بخوف أكبر على وطني ومستقبل أسرتي.
في تلك الأيام المرعبة كان العدو غريباً عنا، وكنا نعرفه بالاسم والشكل. كما كان العالم أجمع وقتها، بخلاف قلة من الخونة، يتعاطفون معنا، ويقفون مع قضيتنا، ويبذلون الجهد لتحريرنا.
أما اليوم، فالعدو منا وفينا، ولن تأتي دول العالم لتنقذنا منه. فقوى هذا العدو الداخلية التدميرية أصبحت تسري في عروق دوائر الدولة ووزاراتها سريان الدماء في أوردة الجسم. كما أصبحت أعداد هذا العدو في تزايد كل يوم، ويتمثلون في عشرات آلاف موظفي الدولة، وبعض كبار مسؤوليها ومشرعيها، الذين لا يود أحد التعرض لهم، أو يسهل الإمساك بهم، وإن انكشفوا، فإن مئات الأيدي، رسمية ونيابية، ستمتد لتغطيتهم وحمايتهم. إنه الفساد الذي وصل يا «أخ أحمد» لكل مرفق، بعد أن خربت نفوس كثيرة وأصبح الإصلاح ميؤوساً منه.
أنت تعرفني جيداً يا أحمد، فقد التقت دروبنا في أكثر من عمل تجاري وعقاري وإداري، وتعرف جيداً كم الجهد الذي بذلته للاحتفاظ بسيرتي وسمعتي، بالرغم من كل المغريات، ولم أمد يدي يوماً لمال غيري، أو لمال الجهات التي عملت بها، أو لمال الدولة، وأنا الذي كانت الملايين تسيل بين أصابعه، ولم أحاول يوماً أن أرشي أحداً. ولكن يبدو جلياً أن عليّ أن أتغير، أن أخضع لمطالب القوى التي طالما رفضتها واحتقرتها، وهذا يؤلمني ويحطمني من الداخل.
لقد تغيرت أشياء كثيرة في السنوات الأخيرة، في ظل التناقص السريع في عدد الموظفين الشرفاء، بعد ان حل محلهم من لا يعرف كيف يفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام، وأصبح الجميع تقريباً يشعرون أن الدولة زائلة، والزرع إلى جفاف، والماء إلى تبخر، وإن عليهم أخذ ما يمكن أخذه، قبل إفلاسها.
حقيقة، يؤلمني ما يحدث حولي، ويكاد يحطم نفسيتي كل هذا الكم الهائل من الفساد الذي غزى كل مرفق وكل إدارة، وخرب النفوس، وأصبح الشريف محارباً ومنبوذاً، وأصبحت حسابات بعض كبار السياسيين متخمة، علناً، ولكن، لأن ما تبقى من سنوات عمري ليس بالكثير، فإنني معني أكثر بوطني وبمستقبل أبنائي وأحفادي، خاصة بعد ان اجتمعوا بي وقالوا إنهم عاجزون عن إدارة أعمالي، إن استمر منعي لهم من دفع الرشوة، تحت أي ظرف. فقد توقفت معاملاتهم وأصبحوا يشعرون بصعوبة مجاراة منافسيهم، الذين تفوقوا عليهم بفضل «مدفوعاتهم»!
لا أدري ما أفعل يا أخي العزيز، فأنا في حيرة كبيرة، وتنتابني مخاوف كثيرة، ويبدو أني سأعلن عن فشلي وخضوعي!
نهض صديقي فجأة من كرسيه، وهو يمسح دمعة حرّى شقت طريقها بين أخاديد وجهه المتعب، وترك مكتبي فجأة كما دخله، ولكن من دون وداع، وهنا شعرت أن مواطناً جميلاً على وشك أن يموت!