السعودية دولة تنتج وتصدر النفط بالدولار الأمريكي، وبالتالي فإن إيراداتها تأتي أساسا بالدولار، كما أن جانبا كبيرا من مدفوعاتها الخارجية يسدد بالدولار، لذلك من الطبيعي أن تربط عملتها بالدولار مثلها مثل الكثير من الدول المصدرة للمواد الأولية في العالم.
من المفترض من الناحية النظرية أن عملات الدول التي تصدر مواد أولية مثل النفط، ترتفع مع ارتفاع سعر النفط والعكس، ولكن التقلب الشديد في أسعار المواد الأولية كالنفط لا يوفر الاستقرار اللازم لعملات هذه الدول، لذلك تلجأ مثل هذه الدول إلى ربط عملتها بعملة دولية، بصفة خاصة الدولار لتجنب الآثار الضارة لتقلب أسعار المواد الأولية.
منذ أكثر من 30 عاما والمملكة تتبنى معدل ربط ثابت بين الريال والدولار الأمريكي عند 3.75 ريال لكل دولار، ولم يحدث خلال هذه الفترة الطويلة، على الرغم من وعورة الظروف الاقتصادية التي مر بها الريال والتقلبات التي تعرض لها، بصفة خاصة التقلبات الحادة في سعر النفط، والعجز الكبير في الميزانية، والارتفاع في حجم الدين العام، وتراجع معدلات النمو، إلا أن مؤسسة النقد السعودي لم تقدم على فك ارتباط الريال بالدولار بعيدا عن هذا المعدل، وظل معدل صرف الريال بالدولار ثابتا، كواحد من أكثر معدلات الصرف في العالم ثباتا واستقرارا.
غير أنه من وقت إلى آخر ومع تغير الظروف الاقتصادية، بصفة خاصة مع كل تراجع جوهري يحدث في سعر النفط تأخذ المضاربات على الريال في الاشتعال، ظنا من المضاربين أن الاقتصاد السعودي لن يتمكن من تحمل الضغوط الناجمة عن استمرار ربط الريال بالدولار لفترة زمنية أطول. بالطبع كلما طالت فترة انخفاض أسعار النفط، ازدادت التوقعات حول ضعف قدرة السلطات النقدية على الاستمرار في الربط، وبالتالي تزداد احتمالات فك الربط، ولجوء الحكومة السعودية إلى خفض قيمة الريال للتعامل جزئيا مع تبعات تراجع أسعار النفط. تراجع أسعار النفط يؤدي إلى انخفاض الإيرادات النفطية للحكومة السعودية بالدولار الأمريكي، التي يمكن زيادتها (بالريال السعودي) من خلال خفض قيمة الريال بالنسبة للدولار، على سبيل المثال بـ 10 في المائة مثلا.
يوما بعد آخر يطل علينا المضاربون في الريال السعودي محملين بمجموعة من التوقعات القائمة على تخمينات خاصة بالريال وحول ردة فعل مؤسسة النقد السعودي حيال هذه التطورات، آملين أن تدفع هذه التطورات المؤسسة إلى خفض قيمة الريال. لذلك يقومون ببيع كميات كبيرة منه في سوق النقد الآجل بأسعار اليوم، وعند استحقاق تلك العقود يشترون الريال بالسعر الحاضر (الذي انخفض) ويوفون بالتزاماتهم في العقود مع تحقيق ربح مضاربة يساوي الفرق بين السعر الذي باعوا به الريال (أجل)، والسعر الذي اشتروا به الريال (حاضر). الذي يدفع المضاربين إلى الإصرار على الاستمرار هو النظر إلى الأضرار التي يتركها الربط على الاقتصاد السعودي، بصفة خاصة ما له من تأثيرات سلبية في الميزان التجاري واحتياطيات النقد الأجنبي.
أهم ما في النظام النقدي السعودي أنه استطاع أن يوظف إدارة معدل الصرف لضمان الاستقرار الاقتصادي والنقدي، ولقد كان من أهم العوامل التي ساعدت مؤسسة النقد العربي السعودي على القيام بهذه المهمة بكفاءة هي وفرة النقد الأجنبي والحفاظ على علاقة ثابتة بين العرض من النقد المحلي والكمية المتاحة من النقد الأجنبي، وهو ما جعل “ساما” جاهزة في أي وقت لسد الفجوة بين العرض والطلب من النقد الأجنبي على النحو الذي يزيح الضغوط على الريال، فمتى يفهم المضاربون هذه الحقيقة؟ ومتى يتوقفون عن المضاربة على الريال؟
كلما تراجعت أسعار النفط، تعاقبت التقارير عن عدم استدامة ربط الريال بالدولار، وبدأت عمليات الهجوم على الريال السعودي، ومن ثم تنخفض قيمته في الأسواق الآجلة، أملا من المضاربين أن تفك “ساما” ارتباط الريال بالدولار، وإذا حدث ذلك يحقق المضاربون أرباحا من عملية المضاربة في الريال، والواقع أن سياسة إدارة الريال السعودي لم تتعرض لتك الضغوط التي تعرضت لها في الفترة الأخيرة مع تراجع أسعار النفط وتراجع الاحتياطيات الرسمية من النقد الأجنبي.
ورغم ذلك فقد أثبتت “ساما” أنها تستطيع أن تستمر في ربط عملتها بالدولار، بغض النظر عن الآثار التي يواجهها الاقتصاد المحلي نتيجة تراجع أسعار النفط، بصفة خاصة ضغوط السيولة وضعف النمو، وعبر العقود الثلاثة الماضية، كان أداء “ساما” متميزا في إدارة معدل صرف الريال على النحو الذي جنب الاقتصاد المحلي الآثار السلبية لتراجع أسعار النفط.
الميزة الأساسية التي تتمتع بها المملكة من بين الدول التي تربط عملتها بالدولار، التي تحول دون اللجوء إلى فك الربط هي وفرة الاحتياطيات من النقد الأجنبي، التي تسمح للمملكة بالاستمرار لسنوات طويلة في تحمل آثار تراجع أسعار النفط، ودون أن تلجأ إلى خفض قيمة الريال، أو فك ارتباط الريال بالدولار. عندما بدأت أسعار النفط في التراجع قدرت احتياطيات المملكة من النقد الأجنبي بنحو 700 مليار دولار، وهي كمية ضخمة جدا من الاحتياطيات تعادل الناتج المحلي الإجمالي في هذا الوقت. غير أن استمرار تراجع أسعار النفط أدى إلى استنزاف الاحتياطيات لنحو 550 مليار دولار، ومع ذلك فإن هذه الاحتياطيات تمكن المملكة من الاستمرار في تحمل عجز مالي في ميزانيتها لفترة زمنية معقولة، يتوقع بعدها أن تسترد أسعار النفط جانبا لا بأس به من خسائرها.
غير أن ارتفاع معدلات الاستنزاف في الاحتياطيات في المرحلة الحالية أمر متوقع، إلا أنني أعتقد أن استمرار ارتفاع معدلات فقدان الاحتياطيات سيدفع المملكة إلى اتخاذ كل التدابير التي تخفض من معدل تراجع الاحتياطيات لاحقا. بما في ذلك تطبيق برامج للإصلاح المالي لخفض الإنفاق للحد من معدل تراجع الاحتياطيات، وقد اتخذت المملكة بعض الإجراءات الأولية في هذا الجانب. من جانب آخر فإن السيطرة على تراجع الاحتياطيات ستدفع المملكة أيضا للبحث عن مصادر دخل إضافية لتقليل اعتماد الميزانية على الإيرادات النفطية، وهو ما تعمل عليه المملكة في الوقت الحالي من خلال رؤيتها الاقتصادية الجديدة التي من المتوقع أن تحدث نقلة نوعية في هيكل الإيرادات العامة وتساعد على فك القيد النفطي الذي شكل إحدى الخصائص الأساسية للاقتصاد السعودي في العصر الحديث.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟