كان عام 1940 نقطة تحوّل في حياة أسرة دمشقية جميلة، عندما اصبح عائلها، الدكتور يحيى الحديدي اول طبيب عربي يعمل في الكويت، واصبح بحكم الواقع مديرا للقطاع، يوم لم يكن هناك موظفون ولا كوادر ولا نفط، ولا أموال، ولا حتى مياه باردة أو مكيّفات. وكانت المدينة تخلو تقريبا من الزرع والظلال والشجر، فلا غوطة هناك ولا فواكه ولا سلال خضار، ولا أي رفاهية تذكر، او صلة بحضارة غناء طالما عرفها الطبيب الشاب، الذي لا أحد يعرف ما الذي دفعه الى أن يأتي للعمل في الكويت، بكل خشونة المعيشة فيها، وقلة مواردها المالية، ولكن ذلك كان قدر الرجل، الذي كانت له في المقبل من الأيام أياد بيضاء، وفضل لا ينسى، على آلاف الأسر الكويتية التي تلقت العلاج على يديه الكريمتين، ولا شك في أن المال لم يكن الدافع وراء قدوم د.الحديدي الى الكويت، بل كان إنسانيا بحتا.
اكتشف طبيبنا، في اليوم الأول لقدومه، أن الوضع المعيشي في الكويت أكثر سوءا مما توقع، فلا فنادق ولا شقق مفروشة، وبالتالي تم على عجالة ترتيب إقامته بصورة مؤقتة، طالت بعدها كثيرا، في أحد البيوت العائدة لعائلة «معرفي»، وقام تاليا بتحويل إحدى غرف البيت الى عيادة، سرعان ما اشتهرت باسم «المستوصف السوري».
بعدها ببضعة اشهر طلبت منه السلطات مساعدتها في تطوير الخدمات الطبية، شبه البدائية، في الكويت فنصح الحديدي الشيخ بضرورة بناء مستشفى عصري، فتم تكليفه بتدبير الأمر، وهو الطبيب، وتحت الإلحاح غادر طبيبنا الكويت إلى دمشق، وعاد بعد فترة حاملا كامل مخططات البناء التي على أساسها بني «مستشفى دمشق الوطني»، وكانت المخططات النواة التي اعتمد عليها تاليا في بناء المستشفى الأميري، أول مستشفى حكومي في تاريخ الكويت، الذي بني تقريبا بنفس الشكل الخارجي والمواصفات الداخلية لمستشفى دمشق.
قضى د.الحديدي قرابة نصف قرن في خدمة الطب في الكويت، وكرم عام 1968 بمنحه واسرته الجنسية الكويتية، التي استحقها عن جدارة، ويقال إن المرحوم الشيخ سعد، الذي كان وزيرا للداخلية حينها، قال له بالحرف الواحد: «ترى إحنا ما ننسى انك شربت معانا الماي الخابط»! كناية عن مياه الشرب غير الصافية التي كان يتم جلبها، في قوارب خشبية، من شط العرب في البصرة.
عمل الدكتور الحديدي مديرا للصحة عندما لم تكن هناك إدارة، وتغلبت دائما رغبته في العمل الإكلينيكي على العمل الإداري الذي كان عازفا عنه، وعلى الرغم من ذلك طلب منه تأسيس الصحة المدرسية، التي تولى إداراتها لسنوات طويلة. كما تولى إدارة مستشفى الأمراض السارية، قبل أن يتقاعد.
توفي د.الحديدي الإنسان عام 1990 تاركا وراءه بذرة خيرة، ليصبح ابنه الأكبر، صباح، طبيبا معروفا، وليصبح حفيده الأكبر عمر طبيبا آخر، ولتخلد الأسرة بكونها الأولى في تاريخ الكويت التي عمل فيها أجيال ثلاثة، حتى الآن، في المجال الطبي المقدس.