يحكى أن العديد من المسئولين في الأمة العربية والإسلامية، ومن لف لفهم من صغار وصغار الصغار من أصحاب المناصب والكراسي والمقاعد والنفوذ، بلغوا حالة من الشعور بأنهم «ملكيون أكثر من الملك» و«رؤساء أكثر من الرئيس» و«سلاطنة أكثر من السلطان» و«قادة أكثر من القائد»، حتى لم يعد بالإمكان التفريق بين أفكار خيرة وأفكار خليفة المفسدين أبوبكر البغدادي.
حتى قال الراوي: إن من بين هذه الفئة من المسئولين الذي لا يستحقون البقاء في كراسيهم لكونهم فاسدين أولاً، ومفسدين ثانياً، ولا أمانة وطنية لهم ثالثاً… من بين هذه الفئة ووسطهم، الدجال والمنافق واللئيم والظالم والجائر؛ ما يجعل الناس في هذه الأمة بين خانع لا حول له ولا قوة، وبين ثائر على الأوضاع المعوجة، لكن السؤال: لماذا يعتبر المسئولون من هذه الفئة كتابات الصحافة وانتقادات المواطنين لهم في مواضع الخلل والتقصير والفساد على أنها خيانة للأوطان؟ من قال إنك أيها «المسئول الفاسد» حين ينتقدك الناس وتفضحك الصحافة لسوء ما فعلت وأجرمت أن في هذا إساءة إلى الوطن؟ في حال أنت وأمثالك المسيئون للوطن حتى وإن سكت عن الوطن والناس وهذه كارثة.
بصراحة، لو أجرينا تقييماً سريعاً لقضايا الفساد والسرقة وإساءة استغلال المنصب والنفوذ في العالم العربي والإسلامي، لوجدنا أنها تمثل ملفات ثقيلة ومدمرة للتنمية، وفي الوقت ذاته، تجد لأولئك المفسدين والفاشلين من المسئولين واجهات إعلامية قوية وغنية مادياً للتلميع وللانتقام من كل من يقوم بدوره الوطني المخلص في فضح المفسدين، وهذه الواجهات تجعل المفسد شريفاً ومواطناً مخلصاً، وتتجه في بعض الأحيان للهجوم على الصحافة التي انتقدت المسئول الفاسد وتتهمها بأنها معادية للوطن وللحكومة وللشعب وللدنيا وللآخرة وربما تصل تلك الهجمات في غبائها إلى اتهام الصحيفة أو الصحافي بأنهما يعاديان الله وأنبياءه ورسله.
وفي كل الدول العربية والإسلامية بلا استثناء، هناك خطاب سيئ دنيء يؤجج الأوضاع، وهذا الخطاب له عدة مسارات: نواب، مثقفون، خطباء، ناشطون سياسيون، أجهزة إعلام، والكثير من القنوات الظاهرة والخفية التي يقع على قائمة مهماتها «اللاشريفة» إثارة حالة من الصراع اليومي بدأ يزداد مع ظهور نموذج جديد من «الوطنية» القائمة على لفت نظر الحكومة إلى شخص أو إلى جماعة أو إلى عينة من المسئولين أو الشخصيات على أنهم الرمز الحقيقي والمثال الأكيد المدافع عن مصلحة الوطن أما ما دونهم من المواطنين فليسوا سوى «قوة» خطرة تعمل في السر والعلن للعبث بمقدرات الدولة والشعب.
حتى قال الراوي يا سادة يا كرام، إن الأفواه التي تدافع عن الفساد وعن المسئولين الذين لا يضعون «لولاة الأمر» ولا «للأوطان» ولا «للشعوب» أي اعتبار قدر اعتبارهم لمصالحهم الشخصية والفئة التي تشمل قومهم فقط، ومع شديد الأسف، ينجرف الكثير من الناس وراء تلك الآلة الخطيرة التي تشغلها هذه الفئة من الفاسدين، وهي آلة الصراع الاجتماعي الطائفي بعيداً عن أصول رأب الصدع والالتزام بالأدوار الدينية والاجتماعية والوطنية في معالجة قضية حساسة أو اختلاف في وجهات النظر سواء كان ذلك الاختلاف على المسار الديني أو السياسي! فاتخاذ أسلوب الخطب التأجيجية في صلاة الجمعة وإصدار التصريحات الصحافية النارية هو منهج خاطئ من دون شك، ولعل الخطير الملفت، أن هذا الصراع المقيت، المخفي الظاهر، الضعيف القوي، الطيب الشرير، قد أفرز، أو قل، ضاعف من الإفراز الطائفي في المجتمع ليشكل بالتالي معسكرين جديدين: الأول، هو معسكر المواطن المخلص لبلده، والثاني هو «اللا» مواطن الذي ما فتئا يسعى جاهداً لتدمير كل توجه إصلاحي والتحريض على كراهية أنظمة، وهو معسكر لن يرتاح أبداً إلا إذا رأي بأم عينيه البلد، وهي تسير نحو مفترق طرق كما هو الحاصل في بلدان عربية أصبحت مضرباً للمثل كاليمن، ليبيا، العراق، سورية وإن أعذرتنا قضية العرب التي كانت «الأولى… فلسطين».
إذا أرادت الحكومات العربية والإسلامية التوجه نحو المستقبل، فعليها أن تعي معنى المشاركة الوطنية في صنع القرار، وأن ترمي ما أسمه حكم القطب الواحد والديكتاتورية في الجحيم، وبالنسبة لنا في البحرين، فلا أغلى من هذا الوطن بكل طوائفه وفئاته… رفاعه وسترته… محرقه وكرانته… من شماله إلى جنوبه… نحتاج إلى تقريب المخلص من الناس والحريص على مصلحة البلد، وإبعاد المنافق والمحرض والطائفي والتكفيري، فخطاب هؤلاء وتغريداتهم في «تويتر» وكلامهم في برامجهم الإعلامية ولقاءاتهم، وتخرساتهم وخزعبلاتهم لا يمكن أن تبني مجتمعاً واعياً متماسكاً، وهو بشكل أو بآخر، تجار أزمات لا تعني لهم «البحرين الشامخة العزيزة» إلا مصدراً لملء الجيوب فقط.