الآن، وبعدما هدأت الضوضاء وصمتَ الضجيج، وبعدما قرر بعض المقاطعين، أظنهم الأكثرية، المشاركة في انتخابات المجلس المقبل، وبعدما تحدث الجميع عن أسباب “تغيير التكتيك”، وعن ضرورة المشاركة لدفع الأضرار، أو على الأقل تخفيفها، بعد أن تغول الفساد، واستغل اللصوص غياب المعارضة، في البرلمان والشارع، فعاثوا في الأرض تقطيعاً وفي البلد تنكيلاً وتمزيقاً… أقول، بعد هذا الهدوء: تعالوا الآن ننظر إلى الجهة الأخرى، ونفكر، هذه المرة، في دوافع المقاطعين وأسباب مقاطعتهم، بعد أن تناقشنا عن أسباب المشاركة.
أرى أن الداعين إلى المقاطعة ينتمون إلى مجموعات مختلفة… أهمها المجموعة النقية الصادقة، وهم أولئك المعارضون بصدق للفساد والفاسدين، الذين تصدروا الحراك ودفعوا الأثمان نقداً وعداً في سبيل دفاعهم عن البلد والمواطنين. وهؤلاء نصدقهم ونحترم رغباتهم ولا نشك في دوافعهم أبداً، وإن كنت أرى أن مقاطعتهم، من دون أن يقصدوا، تصب في مصلحة اللصوص. لكنه رأيهم الذي اتخذوه بعد تفكير، واعتبروه مبدأً لا يجوز الحياد عنه. وهم في نهاية المطاف أقرباؤنا سياسياً وأخلاقياً، حتى وإن اختلفت رؤانا في مرحلة من المراحل، لكنها ستعود لتتحد مرة أخرى.
المجموعة الثانية، هي ابنة عم المجموعة الأولى، تختلف معها في اسم الأب فقط، وتشترك معها في الجينات والنسب. وتضم كل من يرفض المشاركة لأسباب نفسية. فهؤلاء لا يريدون أن يروا أنفسهم خاضعين ومذعنين للأمر الواقع، بحسب تعبيرهم، و”اللي يصير يصير”. وهؤلاء نتفهم منطلقاتهم، ونقدرها، وإن اختلفنا معها.
أما المجموعة الثالثة فتضم أدعياء المعارضة، الذين اعتدنا على تكتيكاتهم القديمة في شق الصف وتخوين المعارضين الحقيقيين. فهم، على سبيل المثال، كانوا يعادون مسلم البراك وسعد العجمي وعياد الحربي، و”يشخبطون” على صورهم. والنتيجة هي أن هؤلاء الثلاثة سجناء أو منفيون بعد سحب جنسياتهم، بينما يتنعم أولئك الأدعياء في ظلال شجرة السلطة. هذه المجموعة هدفها المزايدة على المعارضة، والدور المطلوب منها هو إحراج المعارضة، واستعراض البطولة أمامها، كي يخلو الميدان “لمعازيبهم”. هذا وإلا فسيضطر معازيبهم إلى كشف أوراقهم. هؤلاء عبارة عن أدوات قذرة في يد معازيبهم الأنذال.
وتقاطع المجموعة الرابعة لأسباب انتخابية بحتة، ليقينها بعدم قدرتها على النجاح في ظل الصوت الواحد والدوائر الخمس (أتعس التقسيمات الانتخابية وأكثرها لؤماً).
أما المجموعة الخامسة فتضم غالبية المؤيدين لهذا المجلس ونوابه. هؤلاء يريدون استمرار مقاطعة المعارضة كي يستمر نوابهم في المجلس، إذ لا يمكن أن ينجح نوابهم في حال قررت المعارضة النزول إلى الميدان. لذلك نراهم ينتشرون في مواقع التواصل الاجتماعي يطلقون سهام التخوين على كل من صعد إلى قمة الجبل وصرخ في الناس: “شاركوا كي لا يغرقنا السيل”، ونراهم يشتمون الداعين إلى المشاركة ويحذفونهم بالصخر، ليقينهم أن مشاركة المعارضة هي نهاية موسم الحصاد بالنسبة إليهم.
هذه هي المجموعات الرئيسية الداعية إلى المقاطعة، وقد تكون هناك مجموعات أخرى، لكنها قليلة لدرجة عدم رؤيتها بالعين المجردة.