-عربي الأمس لم يكن ليمارس انتحارا في عمل عسكري أو آخر، اذ كان يحرص على حياته وحياة الآخرين حتى في وسط القتال والمواجهات وخطف الرهائن. الفارق بين عرب الامس وعرب اليوم كبير، فعندما خطفت مجموعة فلسطينية تابعة لأيلول الأسود أعضاء في السفارة الاسرائيلية في تايلاند عام 1972 تبين أن ذلك اليوم كان عيد ميلاد الملك، قامت بإطلاق سراح الرهائن مقابل طريق آمن لمصر. في ذلك الزمن بعض أكبر العمليات العسكرية الفلسطينية كانت فلسفتها تقوم على أخذ رهائن مقابل إطلاق سراح سجناء، ولم تكن حالة الموت سلفا وبكل الاتجاهات جزءا من الخطة. اما اليوم فالعنف لا حدود له ولا يوقفه ظرف استثنائي.
كل شيء تغير منذ جيل. فقد سقطت الوعود الطبيعية التي آمن العالم العربي بإمكانية تحقيقها، فلا الوعد بالوحدة أو التقدم أو فلسطين نجح، ولا الوعد بتقوية بالرفاه وبناء الطبقة الوسطى استمر، ولا الوعد بالتعليم النوعي تحقق. فنسبة للخمسينيات والستينيات تراجع العالم العربي في كل مؤشر لأنه ازداد عددا، وضعفت فيه الحقوق، وتردت نوعية أنظمته، وانتشر الفساد، وسقط التعليم كما سقطت الصحة. في الخمسينيات كانت مصداقية الدول أعلى، والثقة بممثليها أثبت. مع الوقت ازدادت الطبقة العربية الشعبية كثافة، ازداد الفقر وانتشرت العشوائيات في مناطق كثيرة، وارتفعت نسب التهميش والبطالة. مع بدايات القرن الواحد والعشرين سقطت الأقنعة وعم الفساد.
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين كانت طبيعة العربي تتميز بالمرونة والبراءة. عربي الخمسينيات كان متفائلا بقيادة عبد الناصر المنطلقة من مصر وبالوحدة والهوية العربية الصاعدة، بل كان متفائلا بالاستقلال عن الغرب، ثم تفاءل بنفس الوقت نسبيا بزعامة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية. تلك الثقة جاءت أساسا من اقتناع شعبي بأن عرب الخمسينيات والستينيات وقادتهم لديهم هم عربي يتضمن التصدي للاستعمار، وإيقاف تمدد إسرائيل بعد هزيمة ونكبة 1948 في فلسطين. ذلك العربي المتفائل تغير مع الوقت. لهذا كانت صدمته في حرب 1967 بلا حدود، فازداد غضبا واحتقانا، فحرب 1967 هزت ثقة العربي بالأنظمة، مما أسس لرحلة شك في المستقبل.
لكن التطرف سيبدأ بالنشوء لأن العربي سيشعر بالخطر يحدق بقضاياه بل وبوجوده. لنتذكر حرب 1982، وكيف احتلت إسرائيل عاصمة عربية (بيروت) وأنهت الظاهرة الفلسطينية وتوجتها بمجازر صبرا وشاتيلا. 1982 علامة فارقة لنمو القساوة في الساحة العربية. تلك القساوة جاءت من الغرب ممثلة بإسرائيل، لكنها جاءت من أقطاب رئيسية من النظام العربي الاستبدادي السلوك. نسأل عن القساوة لنجد مصادرها كثيرة في سلوكيات دول وأنظمة عربية كما وفي سلوكيات الاحتلال الاسرائيلي، ثم نتساءل كيف نما التطرف وكيف تطورت الجهادية الإسلامية على أنقاض الاعتدال القومي واليساري في الساحة العربية؟
ان مستوى العنف الذي تمت ممارسته بحق فئات اجتماعية كبيرة وشعوب في الوطن العربي كان كبيرا، فالأنظمة العربية لم تقدر انها من خلال القمع والاستئثار تمارس عنفا يرسم نفسه على أجساد ضحاياها. فقصص السجون والتعذيب والاختفاء، وقصص الاستئثار السياسي والاقتصادي لم تكن لتصل لهذا المستوى لولا الكثير من العنف في التعامل مع الشعوب والفئات. لا يوجد رصد دقيق لعدد من قتلوا في السبعينيات والثمانينيات والتسعينات في أحداث مختلفة في دول عربية شتى، ولا عدد من تم إلقاؤهم من الطائرات، أو تصفيتهم بصورة جماعية في سجون، أو مصادرة حقوقهم وإعدامهم. وينطبق ذات المنطق على الهجمات والتصفيات بل والمجازر الجماعية التي قامت بها اسرائيل منذ عام 1967 حتى اليوم. لكن الواضح ان كل هذا دفع باتجاه توحش الشخصية العربية. التوحش اليوم مرتبط بتوحش الأمس وتراكماته.
لقد تغير العربي الوديع الذي عرفه عقد الخمسينيات ثم عقد السبعينيات، وجاء إلى الساحة نمط مختلف وحالة انتحارية تصل شظاياها لكل مكان. لا مخرج من هذا الوضع بلا سياسات عربية تعيد للإنسان مكانته وللفكر قيمته وللعدالة جوهرها وللتسامح مركزيته.