الروح هي جوهر الذات الإنسانية، وهي نقطة التمايز بين الإنسان وبقية الكائنات، هي الجوهرة الثمينة التي من غيرها تبقى النفس الإنسانية ذات طينية أرضية لا قيمة لها، فالروح هي النفحة العلوية التي تسمو بالإنسان في معارج الفضائل «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين». فبحلولها في الجسد استحق آدم سجود الملائكة، فحصل التشريف، وبدأت رحلة التكليف.
النفس الإنسانية تتنازعها مطالب الروح ومطالب الجسد، حيث يبقى الإنسان طوال العام يلهث وراء نداء الجسد المادي، وصوت الغرائز، ومتطلبات وجوده المادي، فيأتي شهر رمضان ليضع حدا لذلك اللهاث، ويذكر النفس الإنسانية بالحاجات الأخرى التي عليها حق العناية والرعاية، وهي الحاجات الروحية، التي كثيرا ما يغفل الإنسان عنها بسبب الإغراق في الحاجات المادية التي تفرضها الحياة عليه.
عندما يتخفف الإنسان من الحاجات المادية والغرائزية التي اعتادها، فيسد منافذها، ويحرم نفسه منها شيئا من الزمن -وهو ما يحصل في الصيام- تتحرر روحه، فتهفو إلى أشواقها العليا، باحثة عما يلبي تلك الأشواق في عالم الجلال والجمال، فترقى نفسه في معارج الإحسان، متذوقةً كل معاني الخير والفضيلة، وهذا ما يفسر شعور الإنسان في رمضان بانطلاقة روحية لا يشعرها في غيره، كما يقول جلال الدين الرومي: «فقط حين تفعل ما تمليه عليك روحك، تشعر بهذا النهر العذب يتدفق داخلك، إنها البهجة الخالصة..».
الاستجابة لمطالب الروح تعطي الإنسان شعورا بالسمو والرفعة والحرية، لكنها حرية من نوع أسمى من تلك التي أصبحت مبتذلة من كثرة ما تلوكها الألسن، والتي صارت في أذهان الكثيرين تعني حرية إطلاق العنان للشهوات والغرائز، تلك الحرية التي لا تُشعِر الإنسان بالتحرر من سجن المادة، بقدر ما تجعله أسيرا لما تمليه عليه غرائزه التي يتشارك فيها مع الحيوان، وبذلك يتوارى الشعور الإنساني الحقيقي خلف ركام من الأهواء، ورعونات النفس!،
كل مافي رمضان يغذي الروح، ويلفت انتباه الإنسان إلى الجانب المهمل من نفسه، وذلك عن طريق الصيام والقيام وقراءة القرآن والصدقة والاعتكاف، وترك الجدال وفضول الكلام، وقول الزور والعمل به، مع أداء كل ذلك باستشعار واستحضار لدوره في استنهاض الروح، وإزالة غبار المادة عنها.. حتى يكون لرمضان معنى!.